يزدحم المجتمع المصري بحراك سياسي واجتماعي واقتصادي دائم ومستمر يثير الإعجاب إلى درجة الحسد، لأن هذا المجتمع الحيوي، المنصهر والمبدع يفرز دائماً أدواته المدنية المانعة للسقوط والانهيار بشكل غريزي، تماماً مثل جسم الإنسان عندما يتعرض لأي نكسة صحية عارضة تنبري كل الخلايا إلى التكاتف والدفاع لمنع تمدد مضاعفات الالتهاب والسيطرة عليها بكل الوسائل والتقليل من مضارها.

كذلك فكما للجسم حسب وصف علماء الطب عقل منظم يدير غريزة البقاء بالتحصينات الدفاعية الذاتية عندما يتعرض للهجوم والأذى من الأعداء كالبكتريا والطفيليات والفيروسات الضارة.

كذلك فإن للمجتمع المصري آلية عقل باطني مرهف يعمل بساعة بيولوجية عالية الدقة عصية على الكسر مستمدة عملها من حركة النيل المتفاعلة تفرز أدواتها الدفاعية المؤثرة التي تستطيع مواجهة التحولات الحاصلة في محيطها وتحافظ في الوقت عينه على الحبل السري لديمومة هذا المجتمع واستقراره وتفاعله التصاعدي الثابت على قناعاته مهما ظهرت من هنا وهنالك منغصات هي إفراز طبيعي لحركة مجتمع عملاق وفاعل كالمجتمع المصري الرائع.

يمتاز المجتمع المصري بصورة خاصة والمجتمعات العربية والإسلامية بشكل عام بظاهرة التعاون وهي ميزة أخلاقية وإنسانية راقية عمقتها أكثر منظومة العادات والتقاليد المتوارثة عبر التاريخ وساهم بتأطيرها أكثر وأكثر الوازع الديني المتأصل في النفسية المصرية «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تتعاونوا على الإثم والعدوان» بحيث عندما تقصر السلطة الحاكمة أياً كانت هذه السلطة، يسارع المجتمع المدني الحيوي إلى سد الفراغ في عملية تكامل غير مدبرة وغير مبرمجة أصلاً.

ولكن آليات عمل المجتمع المصري المبنية بالأساس على التعاون الأخلاقي والإنساني هي التي تجعله في حالة من الاستنفار وتحركه غريزياً لسد الثغرات، كما أن النزعة العاطفية الغالبة على شخصية هذا المجتمع هي التي تكسبه هذا التفاعل السريع مع القضايا المصيرية وتجعله يترجم هذا التفاعل تحركاً وعملاً جدياً على الأرض.

عندما قلت أن الحراك السياسي الذي يقوم به المجتمع المصري مثير للإعجاب والحسد لم أكن أبالغ، لأن هذا الحراك يكاد يكون يتيماً ووحيداً على الساحة العربية إذ لا نشاهد حراكاً مماثلاً في أي ساحة عربية أخرى تتشدق بمصطلحات الديمقراطية والحرية والسيادة، بل نشاهد أرضاً يابسة مجدبة وقاحلة اجتماعياً وحتى اقتصادياً وفنياً من أي حراك يدل على أنها حية ونابضة تواكب متغيرات العصر.

لقد شهد المجتمع المصري خلال العشرين عاماً الماضية تحولات كثيرة وأفرز معادلات سياسية واجتماعية ومطلبية في غاية الأهمية، فقد استعد هذا المجتمع بعد توقيع معاهدات السلام مع إسرائيل لخوض أكبر حرب لمواجهة آثار التطبيع على مدى ربع قرن كاملة، وقد سجل انتصارات هائلة تفوق انتصارات حرب أكتوبر المجيدة في مواجهة الإغراءات الإسرائيلية الوحشية التي استطاع سد معظم منافذها، والحد من آثارها الخطيرة.

وحقق إنجازات مهمة وبارزة في هذا المضمار، ونستطيع أن ندعو بصوت عال معظم العرب والداعين إلى مواجهة آثار التطبيع إلى الاقتداء بالمجتمع المصري الذي خاض هذه الحرب المجيدة والانتصار فيها بكل تأكيد، وبقيت القاهرة عاصمة العروبة الحقيقية.

ولا تزال إسرائيل ترتعد فرائصها من الجيش المصري الذي يعتبر إلى الآن الصمام الإستراتيجي مع الجيش السوري في وجه العربدة الصهيونية المتمادية في المنطقة يضاف إليها طبعاً المقاومة اللبنانية الشريفة التي كسرت هيبة الجيش الذي لا يقهر.

يبقى القول إن أم كلثوم التي أنشدت «مصر التي في خاطري» كانت تنشد هذه الإرادة الصلبة في هذا الشعب وهذا المجتمع الذي لا يمكن ترويضه بهذه السهولة أو بيعه في قطاعات الخصخصة والعولمة لأن كمية العاطفة التي جبل عليها هذا المجتمع لا يمكن تغييرها. وعمار يا مصر كما قال الراحل أحمد زكي في ختام فيلمه العبقري البيه البواب.