هنالك مصادفات تشبه الكيمياء العجيبة تتدخل الأقدار في صنعها لكي تكون عبرة لأولئك الذين يتجاوزون كل قانون وكل دستور، ويراودهم شعور في لحظات الزهو بأن الدنيا التي أقبلت عليهم حطت رحالها في ديارهم، ولن تدبر عنهم إلى سواهم متناسين القاعدة الأثيرة «لو دامت لغيرك ما آلت إليك».

لم يكن يصدق أحد في المغرب أن فؤاد عالي الهمة الوزير المنتدب في وزارة الداخلية سيكون خروجه بما يشبه الإقالة والإعفاء من منصبه وهو الرجل الأقوى الذي حكم البلاد منذ عام 1999 بهذه السرعة الذي كان زميلاً للملك محمد السادس في الدراسة الابتدائية والجامعية وصديقه، وكاتم أسراره والمنفذ الدقيق لتعليماته وتوجيهاته.

ومن المصادفات الغريبة أن يأتي توقيت خروج فؤاد عالي الهمة من منصبه الوزاري قبل أيام قليلة من وفاة إدريس البصري أشهر وأقدم وزير داخلية في المغرب في عهد الحسن الثاني الراحل والعالم العربي، لا بل في العالم الذي كان الهمة أحد تلاميذه النجباء، فواحد خرج من الحياة بعد صراع مرير مع مرض عضال في أحد المستشفيات الفرنسية والآخر خرج من الحياة السياسية التي كان صانعاً أساسياً فيها.

فالأول حمل معه أسراره الخطيرة التي كان يهدد بكشفها إلى القبر والأخر طوى فترة قصية من السلطة الصاخبة والمكثفة حتى أصبح لقبه فيها «بالصدر الأعظم» حسب تعبير أحد تعليقات الصحف المغربية ذاتها والرجل الثاني في الحكم.

تعددت الروايات والتفسيرات حول خروج فؤاد عالي الهمة من السلطة، هذا الرجل الخجول الذي يعرف جميع المتابعين للشأن الداخلي المغربي بأنه الحاكم التنفيذي في تلك البلاد، وحرصه على الاختفاء عن الأضواء هو نتيجة طبيعية للسنوات الطويلة التي أمضاها في كنف وزارة الداخلية متدرباً في مكتب إدريس البصري الذي تحول فيما بعد إلى خصم للدولة، وحمّله مسؤولية إبعاده عن السلطة بطريقة غير مناسبة.

وشنّ إدريس البصري الذي تم تشييعه في مسقط رأسه في أحد أحياء مدينة سطات الواقعة على الطريق بين مدينتي الدار البيضاء ومراكش خلال السنوات الأخيرة حملات إعلامية شديدة ضد فؤاد عالي الهمة، وحمّله مسؤولية كل العثرات والأحداث الأمنية التي شهدتها الساحة المغربية في الآونة الأخيرة.

يذهب المتابعون للشأن المغربي في تفسير إبعاد الهمة إلى عدة استنتاجات أبرزها عدم ضبط الوضع الأمني بعد تكرار العمليات الانتحارية التي جرت مؤخراً، وآخر يعتقد أن زيارته المفاجئة إلى الحدود مع سبتة المحتلة من قبل إسبانيا فسرها البعض أنها اعتراف رسمي بهذه الحدود.

ولكن من أهم واخطر التفسيرات لخروج الهمة من وزارته التي تشبه العقوبة هو أنه حاول استنساخ تجربة إدريس البصري في نفس الوزارة وأنه حاول توسيع نفوذه وإعادة الوزارة إلى حالتها في عهد البصري أم الوزارات وارتكابه أخطاء كثيرة من بينها الهجمات الانتحارية التي دفع ثمنها مدير المخابرات المدنية وحان الوقت ليدفع الهمة نفسه الثمن بحكم مسؤوليته عن الملف الأمني إضافة إلى ملف المتابعات القضائية لأربع صحف خلال الأشهر الماضية.

التوجس المعلن من تنامي نفوذ حزب العدالة والتنمية في المغرب ليس له مبررات موضوعية، ولكنه وضع النخبة السياسية التي حكمت المغرب على مدى العشرين عاماً الماضية أمام مأزق كبير لأنه يرفع شعار وضع حد للفساد المتأصل ومكافحة الفقر، كما أن حزب العدالة الحزب الشرعي منذ التسعينيات كانت مهمته مواجهة صعود المتطرفين الإسلاميين من أمثال «جماعة العدل والإحسان» التي لم تحصل على ترخيص رسمي بالعمل السياسي.

القول ان الفساد المتفشي هو الأرض الخصبة لتنامي الحالات الإسلامية هو شكوى وثرثرة في المقاهي لأن أحزاب المعارضة التي دخلت السلطة في المغرب لم تتغير بواقع الحال، واستمرت مع فؤاد عالي الهمة وادريس البصري الذي أصبح في ذمة الله، لذلك لعن الظلمة لا تغير بل المهم إشعال الشمعة لإضاءة القلوب والعقول.