عندما شرع الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور في بناء بغداد منذ حوالي ألف عام على ضفاف نهر الفرات، كان هدفه بناء مدينة نظيفة خالية من الذباب والحشرات والروائح الكريهة، والازدحام الخانق، أي تأسيس مدينة جديدة تراعي المقاييس البيئية بحسابات اليوم، ولهذا فإن الخليفة العباسي قد يكون أول مؤسس لظاهرة الحفاظ على بيئة نظيفة خالية من التلوّث التي يسببها الإنسان، وتفرز هذه الكوارث الطبيعية التي نشاهدها اليوم بالأعاصير القاتلة والتغييرات المناخية الخطيرة.
ولكن هذه المدينة التي أنشأها الخليفة العباسي لكي تكون مركزاً للراحة والاستجمام له، ومقراً لدواوينه، لم تلبث أن امتدت واتسعت وأصبحت خلال أعوام قليلة منارة للعلم وملجأً للثقافة والمبدعين. فقد جذبت إليها العلماء والشعراء وباتت هدفاً سامياً لطلاب المعرفة وداراً أثيرة لحركة أدبية وعلمية عملاقة.
حيث شهدت أكبر حركة ترجمة من اليونانية إلى العربية، ومن العربية إلى اليونانية، ولكن هذه المدينة التي كانت تساوي بمصطلح اليوم باريس أو نيويورك، تحولت إلى أطلال، عندما دخلها هولاكو بجحافله الجرارة، وارتكب فيها جريمته التاريخية البشعة، فقتل أبناءها المتعلمين، وأحرق مكتباتها النفيسة.
بغداد التي أصابتها لعنة المدن المتميزة التي جلبت لها الحسد والكراهية لا تزال تدفع الضريبة القاسية منذ ذلك الحين، فهي لم تسلم منذ الاجتياح المغولي الوحشي وحتى اليوم من لعنة الحسد ولم توفق منذ ذلك التاريخ بقائد نزيه يحافظ على ميراثها، ويعيد إليها بريقها، بل كانت تنتقل من مستبد إلى طاغية، أو تبتلى بقائد ضعيف عاجز عن إعادة التوازن إلى ربوعها الغالية.
وها هي بغداد اليوم تتخبط بدمها القاني، وتسبح بدموع أطفالها الأيتام، وتتطاير أشلاء رجالها بالسيارات المفخمة، ونساؤها تلطم الصدور والخدود على الموتى والمفقودين، وتقيم السواتر الأسمنتية العالية ضمن الأحياء لتأمين الحماية والأمان للعائلات والأسر، بعد أن كانت أفقاً رحباً، إنها مدينة تحمي نفسها من نفسها، إنها بغداد التي تخشى من بغداد التي سميت يوماً دار السلام.
الكلام عن بغداد يأخذ دائماً شكل القلب كما يقول الشعراء فلا أحد يصدق أن بغداد انشطرت إلى شرق وغرب، كما لم يصدق في الماضي أن بيروت عاصمة الجمال قد تنشطر بين شرق وغرب، ولكن يد العبث والجنون والحقد الأعمى لا تزال الأعلى والأقوى.
للأسف بغداد أكملت دورة عنف كاملة وها هي أصبحت مقسمة، بين شرق وغرب والقتل الأعمى يطال الذين يضيعون مسالك منازلهم بين شرق بغداد وغرب بغداد، وتحدثنا الأخبار أن بعض البغداديين باتوا يحملون في جيوبهم بطاقتي هوية لتتاح لهم حرية التجول بين أحياء العاصمة الثكلى والأغلب الأعم منهم لا يحمل هوياتهم الشخصية استجابة لضرورات تستدعيها الحياة اليومية.
لذلك فإن الوصول إلى منطقة «العلاوي» المقر الرئيسي للباصات وسيارات التاكسي في وسط العاصمة سهل ولكن الدخول إلى حي الضباط هو مخاطرة كبيرة، أما المجيء إلى «حي الجهاد» من «حي الضباط» فهو المخاطرة العظمى وغير المحسوبة، فالمتربصون على حدود الكانتونين المتصارعين سيتلقفونه والموت المحقق لن يحتاج إلى ذنب كبير أو جناية.
إن الزيارة الجريئة التي قام بها نوري المالكي إلى مدينة العويجة مسقط رأس الرئيس العراقي السابق تمثل خطوة نحو الحل، ومحاولة لإقناع العرب السنة بالدخول إلى الحكومة إلا أن الحلف الرباعي الذي يتم إعادة تسويقه من جديد كغطاء للحل السياسي لن يستطيع الإقلاع إلا بمشاركة جميع القوى السياسية وتخفيف العبء عن الناس وتأمين الضروريات لهم من ماء وكهرباء وإقفال ملف الفساد الذي يكبر يوماً عن يوم، والنزول إلى الشارع كما طالب أحد قادة التيار الصدري، والتماس حاجيات الناس الأساسية والضرورية.
بغداد تئن هذا صحيح، ولكن العراق بأسره يئن والأهم هو وقف هذا الفرز الطائفي الذي يجعل بغداد شرقية وغربية، وهذا كابوس القتل يعود مجدداً إلى «مثلث الموت» حيث عادت الميليشيات تمارس هواية الاعتداء على الناس والمارة على طريق بغداد ـ بابل، وبغداد ـ مدن الجنوب، والجميع يعلن عجزه عن المواجهة. المشكلة في العراق أن الجميع يعرف المجرم ولكنه يعف عن فضحه، ويرمي الكرة في ملعب الآخر والأبرياء يدفعون الثمن، وفي مقدمتهم بغداد.