يقال: «إن الأفكار لا تهبط من السماء بل تصعد إليها، وتتفتق في المجرات لتعود إلى الأرض من جديد لتترك بصمة في كل الأشياء من حولنا»، فالمصطلحات التي تطلق على الأعمال التي تبالغ في تصوير المستقبل وتنقلنا إلى عالم الميتافيزيقيا أو ما يعرف بما وراء الظواهر المحسوسة هي نفسها التي تعرف بالخيال العلمي الذي لا يمكن للعقل البشري أن يصل إليه إلاّ عن طريق التخمينات والتأملات.

ولعب هذا الخيال دورا كبيرا في النفاذ إلى أعماق المستقبل واستشراف جزء كبير من معطياته، بل إن بعضه تمكن من النجاح في تحقيق نسبة دقيقة من المقاربة بين الخيال والواقع المعيش لدرجة قد تذهل المطلع على بعض الحقائق من دقة هذا الخيال في رسم صورة الواقع بخاصة في الوصول إلى الاكتشافات والاختراعات العلمية.

ولعل أدب الخيال العلمي هو الرائد في بلورة هذا الفن أو العلم ووضع الخيال على المحك والرهان على تحوله إلى حقيقة في يوم ما، ويعتبر المؤلف الفرنسي العظيم جول فيرن من أوائل كتّاب الخيال العلمي، ومن المعروف أن معظم الخيال في رواياته قد تحقق لحد مذهل فيما بعد، وتكفي روايته المشهورة «20 فرسخا تحت الماء» التي كتبها عام 1870م .

والتي تدور أحداثها حول غواصة تجول تحت الماء وما تواجهه من مخاطر، وإسهابه في إرفاق تفاصيل لشكل الغواصة ومواصفاتها، ووصفه للصواريخ بعيدة المدى، والطائرات النفاثة التي كانت سابقة لأوانها بما تعنيه الكلمة، فلا وجود للغواصات أو الطائرات النفاثة آنذاك، أيضا كتب فيرن روايته «من الأرض إلى القمر» والتي وصف فيها الهبوط على القمر وشكل المكان هناك وطريقة مشي الرواد وكيف تنطلق المركبة من الأرض عن طريق صاروخ يقذف بها، والطريقة التي يعود الفريق بها، وذلك بأن يهبطوا على البحر بالمظلات.

وهو ما حدث بشكل مشابه جداً مع مركبة أبولو 11 وذلك بعد مرور قرن كامل على روايته، وإلى جانب جول فيرن تبرز العديد من الأسماء التي ساهمت في تطور هذا الأدب وكان اقرب إلى علم التنبؤ من كونه نوعاً من فنون الكتابة ولعل أشهرهم الكاتب الانجليزي هيربرت ويلز الذي يعتبره البعض المؤسس الحقيقي للخيال العلمي الحديث ومن أشهر رواياته وأعظمها على الإطلاق «آلة الزمن» التي كتبها عام 1895.

وتؤكد الكاتبة «صفات سلامة» وهي إحدى المتخصصات في هذا الحقل على أن أهمية الخيال تكمن في أنه يجعل الفرد مبدعا في تفكيره، إضافة إلى انه ينمي لديه القدرة على التصور لما ستكون عليه الأشياء والأحداث في المستقبل وكيفية الاستعداد لمواجهتها، لذلك أدركت الدول المتقدمة أهمية الخيال العلمي في إعداد وتنشئة جيل من العلماء والمبدعين، فقامت بإدراجه في مناهج التعليم المختلفة، وافتتحت أقساما دراسية بالجامعات في تخصص أدب الخيال العلمي.

وأكدت على أن دراسة الخيال العلمي جزء لا يتجزأ من استراتيجيات المستقبل، وتقارن الكاتبة بين هذا الوضع في العالم المتقدم وبين الوضع في عالمنا العربي الذي لم يشهد اهتماما مماثلا أو حتى متناسبا مع تلك الأهمية، وذهبت الكاتبة إلى توضيح مواضع الإخفاق في هذا المجال وتحديدا في الثغرات التي تعاني منها نظم التعليم العربية من عدم إعطاء الخيال والإبداع حقهما من الاهتمام، مما يؤدي إلى إغفال تنشيط قدرات النشء الإبداعية، فلا يزال البعض ينظر بحساسية واستغراب لهذا النوع من الأدب، وبالتالي يحجم الكثير من مؤسسات الثقافة ودور النشر عن نشر هذا الأدب لعدم إدراكها لأهميته في تطور العلم والتكنولوجيا وفي إعداد العلماء والمبدعين.

ومن المعروف أن الخيال العلمي هو الذي يقرب مفردات العلم من عقلية الطفل، فربط العلوم النظرية بالتطبيق أي تثقيف الطفل علمياً بشكل صحيح لا يتأتى إلا بربط العلوم النظرية بالواقع منذ المراحل الأولى للطفولة، وتقسم مراحل الطفولة إلى أطوار يختلف في تقسيم سنين هذه المراحل علماء النفس إلا أن الغالبية تتفق علي أن الطفل بين الثالثة والخامسة يتميز بخياله الجامح المقيد في البيئة التي يحيا فيها، ويقلد بأفعاله من حوله، ويقتبس عنهم أعمالهم وتحركاتهم، لذا يتحتم توجيه الطفل للتعلم الجاد المنتج والعناية بتثقيفه العلمي.

وشحن تصوراته وأفكاره بقصص تتحدث عن إنجازات العلم الباهرة، ومستقبله المضيء. فالتخيل عملية استحضار لصور لم يسبق إدراكها من قبل إدراكاً حسياً كاملاً، مثل استحضار الطفل صورته لنفسه وهو يقود مركبة فضاء أو يلتقي بكائنات عاقلة من كواكب أخرى أو أن ينتصر على بطل العالم في المصارعة.

أو يلعب في مباراة حامية بكرة القدم مع فريق عالمي، وغير ذلك من الصور التي ترتبط بالعوالم التي يتابعها، ما يؤدي إلى رسم صورة ذهنية تحاكي ظواهر عديدة في الكون، لنصل إلى حقيقة مفادها أن الخيال أميز صفات الإنسان، وكلما برع في التخيل، برع الابتكار والاختراع.

وإذا تعمقنا في هذا الفن المتميز بين فنون الكتابة الأدبية سنجد أن أدب الخيال العلمي في عالمنا العربي لا يزال نادرا، بل ان هناك الكثير من التساؤلات التي تحيط به ولعل أهمها يرتبط بمدى الوعي بأهمية هذا الأدب والموضوعات التي يتصدى لها.

إضافة إلى اتفاق النقاد على وجود أزمة مصطلح في الإعلام العربي حيث تدخل كلمة فنتازيا على خط أدب الخيال العلمي وللإنصاف هناك بعض الكتاّب الذين اشتهروا بالكتابة في هذا المجال ومنهم نهاد شريف ومن أشهر أعماله قاهر الزمن، وسكان العالم الثاني، وأحزان السيد مكرر، والكاتب طالب عمران وروايته إكسير الحياة، والكاتب الدكتور مصطفى محمود وروايته العنكبوت، ود.نبيل فاروق الذي كتب سلسلة ملف المستقبل وغيرها من الروايات التي تنتمي لأدب الخيال العلمي.

ولا يخفى أن العالم العربي ممثلا بأدبائه قد غذتهم الأساطير وتغلغلت إلى أعماقهم لدرجة الاستحواذ، بل يمكن القول إنهم برعوا في هذا النوع من الكتابات، ولعل تاريخ «ألف ليلة وليلة» خير دليل على سيطرة الأسطورة على ميولهم الأدبية حتى الوقت الراهن، وإذا كان الأدب العربي قد حصد نجاحه من التاريخ، فإن الأدب الغربي يعيش عصره الذهبي من امتطاء صهوة الخيال والتحليق بعنفوان في ارض خصبة، فهل يحمل لنا المستقبل من ينافس مؤلفة «هاري بوتر» في سلسلة نجاحاتها، بترجمة تتجاوز ثلاثاً وستين لغة.

كاتبة إماراتية