الحرباء دويبة صحراوية معروفة ومشهورة بقدرتها على تغيير لونها بحسب المكان الذي توضع فيه، سواء كانت على فرع شجرة أو جذعها، أو على سطح الأرض، وذلك لكي تحمي نفسها من الطيور والأعداء الذين يهاجمونها. ويُضرَب بها المثل في التلون، إذ يُقال: تلوَّن تلوُّن الحرباء.

ولو فكرنا منطقيا بالألوان التي يمكن للحرباء أن تتلون بها في الصحراء سنجد أنها لن تتجاوز ثلاثة ألوان هي: الأخضر، والأصفر (الرملي)، والبني (الخشبي)، لأن هذه هي ألوان الأماكن المتاحة لها في البيئة الصحراوية؛ فهي إما أن تكون على الرمال فتتلون باللون الأصفر الرملي، وهذا وضع قليل الحدوث، لأنها لا تنزل إلى الأرض إلا من أجل الانتقال من شجرة إلى شجرة أخرى. أو أن تكون على ورق الشجر، فتتلون باللون الأخضر، أو أن تكون على جذع شجرة، فتحتاج إلى التلون باللون البني.

ولكن هذا لا يعني أنها لا تستطيع أن تتلون بألوان أخرى، بل على العكس تمامًا، تمتلك الحرباء القدرة على التلون بألوان كثيرة تتماشى مع الوسط الذي توجد فيه، ولكن طبيعة البيئة الصحراوية التي توجد فيها الحرباء تحصرها في الألوان الثلاثة المذكورة سابقا بشكل أساسي.

المهم في الأمر هو أن الحرباء لا تلجأ إلى تغيير لونها بحسب لون الوسط الذي تكون فيه من أجل الدفاع عن نفسها فقط، ولكنها قد تفعل الأمر ذاته من أجل التغرير بضحية من الضحايا، كي تشعر بالأمان وتقترب منها فتتمكن ـ الحرباء ـ من افتراسها، لأنها تعتمد في تغذيتها على الحشرات التي تقع على امتداد لسانها اللزج، الذي تمدّه إليها وتقتنصها.. أي أنها قد تغيّر لونها لهدف هجومي وليس دفاعيا فقط، أو للحصول على شيء ما، حتى لو كان على حساب غيرها.

يذكرني هذا السلوك اللوني للحرباء بسلوك بعض الأشخاص الذين نحتكّ بهم في مواقع مختلفة في العمل وخارج العمل، ولا نكاد نعرف لهم لونا. إنهم يجلسون معنا ويضاحكوننا ويتبادلون معنا الكلام والأخبار، ولكن هذا لا يعني أنهم يظهرون لنا ما يضمرون، كما لا يعني أننا نرى وجههم - أو لونهم- الحقيقي، لأنهم مستعدون دائما لأن يغيروا لونهم الخارجي بحسب تغير المواقف، أو تبدل المصالح.

وإذا كانت الحرباء الصحراوية الحقيقية تبدل ألوانها في الصحراء ما بين الأخضر والأصفر والبني غالبًا، فإن الحرباء المدنية المزيفة ـ أو التقليدية باللغة التجارية ـ تكاد تتفوق على الحرباء الأصلية في هذه الخاصية، إذ لا يستطيع المراقب أن يعرف عدد الألوان التي تستطيع أن تتلون بها في الموقف الواحد، لأنها تكون غير مستقرة، ومن الطبيعي أن ينعكس عدم استقرارها النفسي التابع لتغير مصالحها ما بين شخص وآخر، وموقف وآخر، على لونها.

يوجد أمر مهم آخر أيضًا في الطبيعة الحرباوية، وهو أنها تملك القدرة على التشكل بحسب الوسط الذي توضع فيه أيضا، تعزيزا للمجهود الذي تبذله في تغيير لونها، للوصول إلى الأهداف ذاتها، الدفاعية والهجومية على حد سواء.ولا بد أن معظمنا قد رأى ـ صورًا على الأقل ـ للحرباء وهي واقفة بثبات يصل حد التحنيط على جذع شجرة، باسطة ذراعيها في محاذاة أغصانها، بحيث تبدو جزءا من ذلك الجذع لمن يراها، فشدة إتقانها للوضع الذي تتخذه تجعلها جزءا طبيعيا منه، وتجعل عملية ملاحظتها صعبة جدا.

وهنا أيضا لا بد أن يذكرني هذا السلوك الشكلي للحرباء بسلوك بعض الناس الذين تتغير أشكالهم بحسب المكان الذي يوجدون فيه، وكأنهم مخلوقات طينية بالمعنى الحرفي للكلمة، قابلة لأن تتشكل بحسب القالب الذي توضع فيه، دون أن يكون لها شكل واحد ثابت تظهر به دائما، مهما كان المكان، ومهما كانت طبيعة الأشخاص الحاضرين، ومهما كان الزمان، ومهما كان الموقف كله عموما.

إن هؤلاء الناس يعتمدون في بقائهم وثباتهم في أماكنهم على التلون والتزييف اللذين يمارسونهما بسهولة شرب الماء، حتى إن كان ذلك يحدث على حساب الآخرين، ويترتب عليه أخذهم لما ليس من حقهم، فكل ما يستطيعون الوصول إليه يعد في نظرهم حقا من حقوقهم، لا مجال لمناقشتهم فيه.

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: لماذا يلجأ بعض الناس إلى التغير والتبدل؟ ولماذا لا يثبت الإنسان على موقفه مهما تبدلت الأحوال والأوضاع من حوله؟ ومثل هذه الأسئلة ـ على سذاجتها الظاهرة ـ من الصعب الحصول على إجابات واضحة ومحددة لها، لأنها تتعرض لمرض اجتماعي تعاني منه المجتمعات المختلفة عمومًا، ولا بد من إجراء الكثير من الأبحاث والدراسات النظرية والميدانية حتى نتمكن من الوصول إلى إجاباتها. لكني أعتقد مبدئيا أننا ـ كأفراد ـ مسؤولون إلى حد ما عن تفشي هذا المرض بالسكوت عنه حينا، وبالموافقة عليه حينا، ومباركته حينا آخر.

وقد أدى كل هذا إلى تكاثر الحرابي البشرية بيننا يوما بعد يوم، مع تفاوت في مستوى الخبرة والقدرة على ضبط حالات التغيير اللوني والشكلي، وقد أدى هذا أيضا إلى اختلاط الحابل بالنابل، حتى أننا لم نعد نستطيع التمييز بين الألوان الحقيقية والألوان المزيفة للناس من حولنا، وأصبحنا نشك في ابتسامة أحد الأشخاص إن كان يريد خدمة ما يمكننا أداؤها له ـ خصوصا إذا لم يكن من الذين تربطنا بهم علاقة سابقة.

أو أن علاقتنا به ليست قوية ـ، ونفسرها بأنها مجرد تلون حرباوي يتطلبه الموقف، لذلك ننتظر مواقف أخرى تجمعنا بالشخص نفسه، دون أن تكون له مصلحة عندنا، لنضعه على محكّ الاختبار، ونعرف حينها أي نوع من الناس هو.. ومثل هذه الحالة من الريبة وعدم الاطمئنان للآخر أحدثت بعض الخلل في التواصل الإنساني، لا سيما على صعيد العمل.

إننا نخجل أحيانا من مواجهة شخص بعيبه، ونتردد قبل أن ننبه الشخص الحرباوي مثلا إلى انكشاف أسلوبه، وعدم جدوى تغييره شكله ولونه، لأننا نعلم حقيقة جوهره حتى إن تلوّن بلون الذهب، لكننا لا نتورع عن ذكر عيبه هذا وبقية العيوب الموجودة فيه، مضيفين إليها عيوبا أخرى هو بريء منها، في غيابه، لننهش لحمه ما بين غيبة ونميمة وافتراء.

ونحن نشعر براحة تامة أثناء اقترافنا كل ذلك، على الرغم من أننا نعلم علم اليقين أننا لا نغير شيئا بالكلام عن عيوب شخص غير موجود، في حين أننا قد نغير ولو بقدر بسيط إذا قلنا الكلام نفسه للشخص المعنيّ به مباشرة، ولكننا نحجم عن هذا الدور البسيط الذي يمكننا القيام به، ونظهر أمام الشخص الحرباوي وجها، ونظهر من خلفه وجها آخر، لنصبح حرابيّ بشرية أيضا دون أن نشعر بذلك.

وقد يظن ظانٌّ بأن هذا الداء الحرباوي خاص بنا، نحن أهل الصحراء، الذين أخذنا من الصحراء جيدها ورديئها، لكن خبرتي المتواضعة جدا في الحياة بيّنت لي أن نفرا من أهل أكثر المناطق بعدًا عن الصحراء لا يختلفون عنا كثيرًا في هذه الخصلة ـ التي نرفضها جميعا حتى إن كانت موجودة فينا بقدر أو بآخر ـ وأنهم يتقنون فن تغيير اللون والشكل بحسب تغير المكان الذي يوجدون فيه، بل إنهم قد يبزّون أهل الصحراء في ذلك.

جامعة الإمارات

sunono@yahoo.com