مما لاشك فيه أنه عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وفي إطار الزحف الأميركي نحو الشرق تراجع دور ونفوذ روسيا في مناطق وسط آسيا، وساعد على تراجع التأثير الروسي في هذه المنطقة التغييرات البنيوية العميقة التي جرت على التركيبة الجيوسياسية في آسيا، وبالإضافة إلى أن دول وسط آسيا تعتبر من الأسواق التقليدية للمنتجات الروسية، فإن أهمية هذه المنطقة تستند إلى عدة عوامل:
1- الأمن القومي الروسي، حيث تشكل هذه المنطقة الواقعة على الحدود الروسية التي تمتد لعدة آلاف من الكيلومترات البعد الاستراتيجي لروسيا.
2- حوض بحر قزوين وثرواته التي تشكل الاحتياطي الأساسي لمصادر الثروة الروسية.
3- تعتبر هذه المنطقة مصدرا للقوى العاملة التي تعاني روسيا من تناقصها سنويا، حيث تشير التقديرات إلى أن روسيا ستشهد في عام 2030 انخفاض في حجم القوى العاملة إلى النصف.
4- يتواجد في هذه المنطقة العديد من المنشآت الحيوية الروسية مثل قاعدة بايكانور الفضائية. إضافة لمناجم اليورانيوم الذي ستعاني روسيا خلال السنوات المقبلة من تناقص إنتاجه من المناجم الروسية، في ظل ازدياد استخدامه.
وقد شكل دخول الولايات المتحدة وقواتها إلى المنطقة تحت شعار مكافحة الإرهاب خطراً حقيقياً على المصالح الروسية، وكان لابد أن تجد موسكو السبيل لاستعادة نفوذها المفقود.
ولعبت كازاخستان دوراً متميزاً في هذا الإطار انطلاقاً من إدراك القيادة الكازاخية لترابط مصالح كازاخستان مع المصالح الروسية، وبعد أن بدأت تتحول كازاخستان من دولة آسيوية تدخل أسواق الطاقة العالمية عبر روسيا من الباب الخلفي إلى مستوى لاعب مستقل في هذه الأسواق، وتصبح قوة إقليمية ليس فقط بسبب دعم موسكو، وإنما أيضا لان تركيبتها السياسية والاقتصادية تمتلك المقومات اللازمة لتحقيق ذلك.
وقد ساعد على تنامي التعاون الاقتصادي الروسي-الكازاخي والنهوض بكازاخستان كقوة إقليمية اقتصادية في وسط آسيا، ليس فقط الجهود المشتركة للبلدين في استثمار الثروات الطبيعية الكازاخية من غاز ونفط ويورانيوم، وانما أيضا التعاون والتداخل الاقتصادي بين البلدين. وأهمية كازاخستان لم تكن لأنها سوق للمنتجات الروسية فقط، وإنما لاعتماد قاعدتها الصناعية-الإنتاجية بنسبة تصل إلى 70% على التقنيات الروسية،
وبشكل خاص آليات ومعدات التنقيب واستخراج النفط والغاز التي تستوردها كازاخستان من المصانع الروسية في فولجاجراد واومسك واوفا، ناهيك عن أكثر من 30% من سكان كازاخستان من الروس، الذين يشغلون مواقع مهمة في الدولة وقطاع الأعمال. وتجدر الإشارة إلى أن حجم الصادرات إلى روسيا من إجمالي صادرات كازاخستان يصل إلى أكثر من 52%،
ولا تسير في طريق تقليدي، إنما تتم عبر علاقات مباشرة مع 72 إقليم من 89 إقليم في روسيا الاتحادية، بعبارة أخرى تمت صياغة صلات التعاون، وفق ما كانت عليه عمليات التكامل في العهد السوفييتي وفق قوانين التراكيب السياسية الراهنة. كما تعمل أكثر من 1500 ألف مؤسسة روسية كازاخية مشتركة في كازاخستان.
وتعتبر كازاخستان شريكاً وحليفاً لروسيا في ملف استثمار ثروات بحر قزوين، الذي مازال يعاني من تباين في مواقف الدول المطلة عليه حول الصيغة القانونية للبحر ونسب تقسيم الثروات وملف تواجد قوات أجنبية في حوض البحر لحمايته. وتتبنى الحكومة الكازاخية مواقف متقاربة من مواقف روسيا التي ترفض تواجد قوات أجنبية في حوض البحر وتدعو لتقسيم ثرواته بالتساوي بين الدول المطلة على البحر، إلا أنها لا تمانع في أن تفتح المجال أمام المستثمرين في نقل ثروات البحر إلى الأسواق العالمية.
وهو ما نلمسه في حرصها على التعاون مع مؤسسة خط أنابيب نقل النفط (باكو- تبليسي - جيهان).ويبدو واضح دوافع كازاخستان في عدم التجاوب مع روسيا التي تسعى لاحتكار نقل الطاقة بحكم امتلاكها لأكبر شبكة أنابيب لنقل النفط والغاز في المنطقة من وسط آسيا إلى أوروبا، حيت تسعى كازاخستان لإقامة صلاتها المباشرة مع الأسواق العالمية، ولان تصبح من الموردين الرئيسيين للطاقة لكل من بلدان جنوب شرق آسيا وأوروبا، وقد نجحت كازاخستان في إقامة علاقات متوازنة بين الأطراف المتنافسة في سوق الطاقة بمنطقة شرق أوروبا.
وتحصل كازاخستان على احتياجاتها من الطاقة الكهربائية من روسيا، حيث تعتمد محطات توليد الطاقة على التقنيات الروسية، ويتم إمداد بعض الأقاليم الكازاخية المجاورة بشكل مباشر من شبكات الطاقة الروسية.
وفي مجال النفط تعتبر شركة «لوك أويل» من أكبر المستثمرين في كازاخستان حيث بلغ حجم استثماراتها أكثر من 4 مليارات دولار، لتحتل المرتبة الرابعة من حيث إنتاج النفط في كازاخستان حيث تنتج أكثر من 5 ملايين طن سنويا. وبدأت الشركة الروسية في تنفيذ مشروع كونسورتيوم أنبوب قزوين لنقل النفط من أجل الإبقاء على مسار «كازاخستان - شواطئ البحر الأسود الروسية» كأحد المسارات الرئيسية لنقل النفط.
كما وقعت شركة (غاز بروم) اتفاق التعاون لاستثمار غاز حقل «كاراتشاغاناكسك»، الذي يعتبر من أهم حقول الغاز في وسط آسيا، وهو يقع في منطقة أكسايك التابعة لمقاطعة الاورال في كازاخستان. ويتضمن مشروع استثمار الحقل الوصول بالإنتاج بحلول عام 2012 إلى 25 مليار متر مكعب سنويا. وتجدر الإشارة إلى أن احتياطي الغاز في كازاخستان يقدر بحوالي ألفي مليار متر مكعب، وتشير بعض الدراسات إلى أن الاحتياطي المتوقع- بما فيه الجرف القاري لبحر قزوين- يصل إلى أكثر من 8000 مليار متر مكعب.
وتعتمد كازاخستان في تصدير منتجاتها النفطية إلى ألمانيا وبولندا والمجر وتشيكيا على شبكة (الصداقة) الروسية، التي تنقل حوالي 60% من النفط الكازاخي إلى الأسواق الأوروبية. بالإضافة لذلك توجد اتفاقات تعاون بين البلدين حول زيادة طاقة استخدام خطوط الأنابيب لكونسورتيوم بحر قزوين إلى 67 مليون طن من النفط سنويا، باعتبار انه لا يستفاد حاليا الا من 28 مليون طن.
وتعتبر موسكو أن التعاون مع كازاخستان في مجال الطاقة النووية، هو الضمانة الأساسية لعدم تعرض الاقتصاد الروسي لأزمات، باعتبار كازاخستان واحدة من3 دول في العالم تسيطر على 70% من احتياطيات العالم من اليورانيوم الخام الرخيصة (40 دولارا للكيلوغرام).وتبلغ حصة هذه البلدان في إنتاج العالم من اليورانيوم 60%، وتفيد دراسات مراكز الأبحاث أن روسيا يمكن أن تواجه نقصا في اليورانيوم،
حيث إن الاحتياطي المجدي لا يتجاوز أكثر من 170 ألف طن، ما يعادل 28% من احتياطيات روسيا من اليورانيوم، والتي تقدر بحوالي 600 ألف طن. وستضطر روسيا خلال السنوات المقبلة إلى زيادة إنتاج اليورانيوم بنحو 4, 1 مرة في عام 2010 و4 ,3 مرة في عام 2020،
وذلك لكي تضمن تزويد محطاتها الكهروذرية بالوقود وتستمر في تصدير الوقود النووي واليورانيوم غير المخصب إلى الأسواق العالمية. ومن الواضح أن كازاخستان تمثل المصدر الأقرب إلى روسيا، التي يتوقع أن ينفد مخزون اليورانيوم لديها في عام 2015. لذلك لن تستطيع روسيا دون كازاخستان توفير أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي ولا لنفسها.
وقد بدأت كازاخستان بتحقيق طموحها في أن تتحول إلى قوة إقليمية من خلال توسيع استثماراتها في دول وسط آسيا، عبر توقيع اتفاقيات مع قرغيزيا تقضي بزيادة التعاون الاقتصادي المشترك الواسع، حيث بلغ حجم رؤوس الأموال الكازاخية المستثمرة في قرغيزيا نحو 60% من حجم رؤوس الأموال الأجنبية. وقد أعلن الرئيس الكازاخي أن بلاده ستقدم مساعدات إلى قرغيزيا تصل إلى 100 مليون دولار.
وتأتى تحركات كازاخستان في إطار مساعيها لإنجاح مبادرتها بتشكيل اتحاد يجمع دول آسيا الوسطى (السوفييتية سابقا) يعتمد على مبادئ التنظيم الأوروبي. ويبدو واضحا أن كازاخستان ستكون القوة الاقتصادية والسياسية الرئيسية في الاتحاد الجديد الذي قد يفوق متانةً الاتحاد الروسي البيلوروسي. وسيجعل كازاخستان دولة إقليمية عظمى.
وتدرك موسكو أن توجهات حكومة كازاخستان تحصل على دعم أميركي يستهدف جعلها قوة توازن روسيا في سوق النفط العالمية وفي مواجهتها، إلا انه من ناحية أخرى يحقق مصالح موسكو في وجود شريك آسيوي قوى سيحافظ على نفوذ روسيا طالما لديه مصالح مشتركة معها، وسيكون قادرا على لجم زحف القوى الأخرى تسعى للتغلغل في وسط آسيا.
مركز دراسات الطاقة ـ روسيا