جدار الأعظمية الذي شرع الاحتلال الأميركي في بنائه لفصل أحياء بغداد وراءه قصص وأفكار وتصورات، بعضها يعود إلى زمن ثورة الحقوق المدنية داخل الولايات المتحدة خلال الستينات، وبعضها الآخر يستنسخ تجربة إسرائيل في بناء حائط العزل العنصري. ومع أن فكرة الجيتوهات أو الأحياء المعزولة فكرة مقيتة من الأساس، وتمثل حسب التجربة اليهودية أحد أعراض الاضطهاد العنصري، إلا أن الأميركيين والإسرائيليين لا يزالون مخلصين للأفكار النازية السوداء التي تاجروا بعذاباتها ثم اعتنقوها.

تعود فلسفة الجدار الذي تريد الإدارة الأميركية أن تخفي به سوءاتها في العراق إلى ستينات القرن الماضي، وعمل حدثان بارزان على تكريسها.. الأول حركة الحقوق المدنية بزعامة مارتن لوثر كنج والتي دفعت السود من العسكريين الأميركيين في فيتنام إلى القول: «لأي شيء نقاتل هنا.. إذا كان لأميركي أسود أن يحارب في أي مكان، فيجب أن يقاتل في المسيسبي», وقتها عانت عدة مدن أميركية من أحداث الشغب في أحياء السود.

ونبتت فكرة الأحياء المعزولة، التي تم نقلها أيضاً إلى فيتنام بعد بدء مسلسل الهزائم الأميركية هناك وهذا هو الحدث البارز الثاني، لكن نائب مدير العمليات في القيادة المركزية الأميركية الجنرال روبرت هولمز لم يتذكر في تصريحه قبل أيام إلا حملة «الأحياء المعزولة» التي طبقت خلال حرب فيتنام في محاولة لحصار ثوار الفيتكونغ. والخطة إذا قدر لها التنفيذ ستؤدي لخلق تجمعات سكانية مغلقة وتعيش خلف الأبواب وتشمل 30 حياً من بين 89 حياً من أحياء العاصمة العراقية.

وحسب رأي روبرت فيسك (الصحافي البريطاني الشهير) فإن الخطة تمثل علامة يأس أميركية، حيث أن حشد السكان في جيتوهات فشل في تجارب استعمارية سابقة ومنها إضافة إلى فيتنام حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، كما أن تجربة إسرائيل الحالية للسياسة نفسها لم تحقق إلا نجاحات متواضعة. ربما تكون التجربة الإسرائيلية دافعاً للاحتلال الأميركي الذي يخطط لإصدار هويات جديدة لسكان الأحياء التي ستخضع للإغلاق ولن يسمح بدخولها إلا لسكانها وحدهم، ومن المحتمل فيما بعد أن يسمح النظام بتسجيل الزوار وتحديد الحركة خارج تلك المناطق المغلقة. وسيجد المدنيون أنفسهم في سجن خاضع لمراقبة دائبة من قبل دوريات أميركية وعراقية تعمل على مدار الساعة. ويتم التشديد على تأمين أسواق بغداد وكذلك المناطق التي تسكنها غالبية شيعية.

وربما يعمل الأميركيون بنفس المنهج الإسرائيلي الخاص باعتقال الرجال القادرين على حمل السلاح.

ولا يخفى على أحد أن النفس الإسرائيلي حاضر بقوة في إجراءات الاحتلال الأميركي، وهو هنا أشد حضوراً، فالخطة التي تم تطويرها تحت رعاية الجنرال بترايوس قائد القوات الأميركية في العراق صيغت خلال دورة عسكرية للقيادة والأركان في فورت ليفنوورث بولاية كنساس وشارك فيها عدد من الجنرالات الذين خدموا سابقاً في العراق مع خمسة جنرالات إسرائيليين كبار، وسيطر على الجميع هاجس تحويل الكارثة الأميركية إلى نجاح.

ومما يجعل المرء متفائلاً بفشل ما يجري أن خطة مشابهة تم تطبيقها في مدينة تلعفر من قبل فرقة الفرسان المدرعة الثالثة بداية 2005 حيث بني حائط ارتفاعه 8 أقدام حول المدينة لمنع حركة المسلحين، لكن لم تمر شهور قليلة إلا وعادت تلعفر مرة أخرى لأيدي المقاومين.

وهناك تقييم أميركي متشائم يقول إن المقاتلين العراقيين قد يستفيدون من المواطنين المعزولين في الأحياء للمساعدة في استهداف الجنود ومن هنا سيجد الأميركيون أنفسهم مضطرين للاعتماد على المروحيات والطائرات، مما يعني ان أي رد أميركي على هجوم للمقاومة هو تدمير الأحياء التي يقومون بحمايتها. على نحو ما حدث قبل أسابيع في حي الفضل حيث خاض الجيشان الأميركي والعراقي واحدة من أكبر المعارك وأطولها ضد المقاومة.

ويبدو أن الأحياء المعزولة هي الطلقة الأخيرة في المسدس الأميركي بعد تنفيذ نسخة طبق الأصل من برنامج فينكس، وهو الاسم الحركي لبرنامج مضاد للمقاومة الفيتنامية في العراق، وتطبيقاً له كانت فرق القوات الخاصة تقوم باعتقال أو اغتيال الفيتناميين الذين يعتقد انهم يعملون مع الفيتكونج أو يتعاطفون معهم. وقد خرجت العملية عن نطاق السيطرة وتسببت في قتل 41 ألف ضحية خلال 4 أعوام معظمهم لا علاقة له بالحرب ضد أميركا، ولكنهم استهدفوا من أجل الثأر لضغائن وعداوات سابقة.

كما قامت القوات الأميركية في إطاره بتنفيذ تفجيرات في المطاعم والطرقات والأماكن العامة حتى تشوه صورة المقاومة الفيتنامية وتؤجج الحرب الأهلية هناك، ويعتقد المعادون لأميركا في العراق أن دفاتر يوميات الاحتلال عموماً وما جرى في سامراء بشكل خاص جزء من فينكس عراقي، كما يؤكد البعض أن تفجير جسر الحديد كان مقدمة أميركية لتطبيق فلسفة «الأحياء المعزولة».

magdishendi@hotmail.com