نتابع هذا الأسبوع موضوعنا الذي بدأناه في الأسبوع الماضي، والذي كان متركزاً حول موضوع الهوية، هوية الإنسان في دولة الإمارات بشكل خاص، وتحديداً حول الاهتمام الكبير الذي يلقاه هذا الموضوع، وبشكل خاص في هذه الأيام.
فالذي ينظر في التحولات الحاصلة على صعيد المكان في بلدنا، وبالتحديد التحول الحادث في حجم ونوع التركيبة السكانية لهذا البلد، يجد أن طرح موضوع الهوية الإنسانية وهوية المكان أيضاً له ما يبرره في هذه المرحلة.
لكن أولاً دعوني أنطلق معكم من سؤال يستحق أن نطرحه على أنفسنا وأن نتعامل معه بشيء من التفكر ومن التركيز، والتمحيص أيضاً، هل نحن فعلاً معنيون بموضوع الهوية بشكل حقيقي وجاد، وما الذي يعنيه هذا الاهتمام، إن وجد؟ بكلمة أخرى، هل نحن فعلاً مهتمون بهذا الأمر بشكل حقيقي وهل نبحث في إيجاد سبل حقيقية لحله، ولماذا؟
قبل أن نبدأ بالإجابة عن هذا التساؤل دعوني أستعيد معكم إحدى النقاط التي طرحها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي في حديث طويل له الأسبوع الماضي بمناسبة مرور خمسة وثلاثين عاماً على قيام اتحاد الإمارات العربية، حيث أكد سموه في جزء من هذا الحديث على نقطة ذات صلة قوية بموضوعنا وتحمل أبعاداً حقيقية لما يعنيه.
ركز صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على أن نظام التعليم عندنا يجب أن يعمل على غرس شعور الانتماء والمواطنة لدى الإنسان، وأن يعزز لديه الانتماء لتراثه وثقافته ودينه، وأن يحافظ على كل هذه الركائز. والذي يعرف دور التعليم في بناء شخصية الإنسان يدرك أن ما قاله صاحب السمو الشيخ محمد هو في الحقيقة ما يشكل نقطة المركز في نظام التعليم.
فنظام التعليم، كما يعرف أغلبنا، أو كما يعرف بالتحديد المعنيون به، يشكل ركيزة أساس في مدى وعينا، ليس فقط بالعالم من حولنا، وإنما أيضاً وعينا بأنفسنا وبمكاننا في الكون. لأن التعليم ليس فقط مجموعة معارف علمية أو معلومات يتحصل عليها الطالب، بل التعليم أهم وأبعد من ذلك وأعمق، إنه في أحد أهم جزئياته، الأداة التي ندرك من خلالها وجودنا وبها نعي العالم ومنها نتعلم الأساليب التي تؤهلنا للحياة وللبقاء.
والتعليم هو الذي يفترض أن يمنحنا، بما يعطينا له من علم، شعور القوة والمقدرة على مواجهة الحياة بكل أشكال تحدياتها، إذ كما يقول بعض الفلاسفة، المعرفة قوة. أيضاً يدرك الضالعون في موضوع التعليم أنه يجب أن لا يختصر التعليم، بأي حال من الأحوال، في مجال حصول الطالب على المعارف التي تؤهله للعمل فقط، أي تمنحه المقدرة على التعامل مع الأدوات الموجودة في الزمان والمكان من حوله، إنما يجب أن فلسفة التعليم أبعد من ذلك وأعمق.
إن الاهتمام بالتعليم ذو شأن خاص في حياة الأمم، وإلا ما توجهت الدول إلى العناية به وجعله على سلم أولوياتها وهي تبني كيانها في العالم أو تعززه. والتعليم يشكل أيضاً نقطة مركزية في بناء شخصية الإنسان، كما ذكرنا، لذا سعت دولة مثل الولايات المتحدة، والتي تحكم العالم اليوم بما لها من قوة عسكرية ومن نفوذ اقتصادي، إلى التحكم فيه، ليس فقط على أرضها، وإنما على أراضي الدول التي سمحت لها بالتدخل في أنظمته تحت شعار مكافحة جذور الإرهاب والقضاء على ثقافة التعصب.
والقارئ المتبصر للأحداث يجد أن هذا التدخل الأميركي في المناهج التربوية للدول الأخرى تحكمه أهداف أخرى متلخصة في جعل أنظمة التعليم في هذه الدول متناسبة مع الأهداف والطموحات الأميركية في المنطقة، وفي السيطرة على العالم من خلال السيطرة على العقول والأفئدة، تحديداً.
ولو كان التدخل الأميركي يقصد به حقيقة مكافحة الإرهاب لتوجهت الولايات المتحدة إلى أكثر دولة تمارس الإرهاب المنظم في العالم، وبشهادة معظم المنظمات الدولية الإنسانية، وتصدره أيضاً لمن يرغب في استعارته، إسرائيل، وطلبت منها تغيير نظامها التعليمي، والذي لا يخلو من الفكر العنصري ومن التحيز.
إن التعليم، كما قلنا، وهو ما أكد عليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يلعب، دوراً مهماً في صياغة وعينا بالعالم وبأنفسنا، وهو الذي يلعب الدور الأساس في ربط الإنسان بمحيطه وتعزيز مكانه فيه وإحساسه به، أي الشعور بالانتماء الذي ذكره سمو الشيخ محمد.
والآن لو عدنا إلى سؤالنا حول مدى وعمق اهتمامنا بموضوع هوية أبناء هذا البلد وما يلعبه التعليم لدينا من تعزيز، أو ربما تقويض في الواقع لهذه الهوية، سنجد أنفسنا أمام سؤال مهم، وهو هل نظام التعليم الموجود عندنا، أو الذي نركز على تبنيه في هذه الأيام، في جوهره، مرتبط بتعميق شعور الإنسان بالانتماء لبلده ولثقافته؟
لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال دعونا ننظر في هذا الموضوع أولاً من خلال النظر للجزئيات التي قلنا انها تشكل الفسيفساء التي تتركب منها هوية الإنسان، ولنأخذ أحد أهم جوانبها، وهو اللغة، فهل تجدون فعلاً أن أبناءنا مرتبطون بلغتهم، وأنهم يعلون من شأنها ويشعرون أنها تمثلهم وأنهم يمثلونها؟
وهل الأساتذة، بخاصة الذين نسعى هذه الأيام، أكثر من أي وقت مضى إلى توظيفهم في مجال التعليم، وهم في الغالب من بلدان ومن ثقافات ومن أنظمة لغوية أخرى، معنيون فعلاً وحقاً بالحفاظ على هوية أبنائنا ومنحهم الشعور بالاعتزاز بهذه الهوية وبما تمثله من ركائز، بخاصة في جانبي العقيدة والثقافة؟
أود أن أترككم فقط مع هذا السؤال. لأن الذي يجري والذي نراه على أرض الواقع يجعلنا نعيش حالة من التذبذب ومن القلق ويدفعنا نحو تسمية الأشياء بأسمائها إن كنا نود أن ندرك ما نحن بصدده وما نحن مقبلون عليه، وما هي الافتراضات التي ستنتج من أفعالنا التي نمارسها هذه الأيام.
نحن كلنا، أبناء هذه البلد، معنيون، كوننا ننطلق من الرغبة في الحفاظ على كياننا واحترامه، بالنقاط التي ذكرها سمو الشيخ محمد فيما يتعلق بموضوع التعليم وعلاقته بالهوية والوطنية وتعزيز شعور الإنسان بالمواطنة. لأن التعليم مناط به أن يعطي طلابنا شعور الاعتزاز بما ينتمون إليه من ثقافة ومن منظومات فكرية وعقائدية أسهمت، وبشكل أساس في رفد العالم بالكثير من العلوم والثقافات والمعارف العميقة التي منحت الإنسان الكثير من مفاتيح الإدراك لحقائق الحياة.
وهنا لابد من القول اننا لو نظرنا بدقة لما يجري في مجال التعليم عندنا لوجدنا أن برامجه، في معظمها، لا تعزز علاقة الإنسان بكيانه ولا تعمل في الحفاظ على هويته بل تدفعه إلى تبني هويات أخرى والتماثل معها. ولنأخذ موضوع اللغة على سبيل المثال، والذي هو، كما تؤكد الكثير من الدراسات المعنية بالهوية، يشكل نقطة المركز، لأن الهوية هي أولاً لغة وثقافة، أو عقيدة، ومكان وزمان يحتوي هذه الأبعاد.
وحين تقوض اللغة، لغة الإنسان التي تمثل وعاء ثقافته، يفقد بذلك إدراك الوجود المبني على خلفيته الثقافية، أي يفقد إدراك وجوده الخاص، ويبنى صيغة ثقافية لوجوده من خلال صيغ إدراكية أخرى، صيغ قامت في الأساس على نفيه وعدم احترامه، وبالتالي تختل علاقته بنفسه وبالآخرين.
وليس الاضطراب والعنف في العالم، كما يرى الكثير من الباحثين، إلا بعضاً من تجليات مثل هذا الواقع. وأخيراً لابد من التذكير، أننا عندما نتناول موضوع اللغة لا نعني، بأي حال من الأحوال، ألا يتعلم أبناؤنا اللغات الأخرى، بل أنهم يجب أن يتعلموا لغات العالم ويطلعوا على ثقافاته، فبهذا تتوسع مداركهم ويكتسبون سمات كثيرة، ومنها احترام الآخرين واختلافاتهم، لكننا فقط معنيون بحقيقة لا نستطيع تجاهلها،
ألا وهي أننا يجب أن نحترم أنفسنا وثقافتنا، وما تعنيه هذه المسألة من أبعاد، إذا كنا نريد أن يحترمنا العالم. لأن هذا العالم لا يحترم تابعيه، بل يحترم كل من لديه شعور بالسيادة والعزة والكرامة، ونحن أهل لهذه المكانة، لأننا نملك، شأننا شأن الآخرين أيضاً، ثقافة غنية ولغة عريقة كرمها المولى عز وجل حين أنزل القرآن بها. وبالحفاظ على هذه اللغة وهذه الثقافة نحن نضيف للعالم أبعاداً مهمة ونشارك في إثرائه المتنوع.
جامعة الإمارات