ليس من الواضح ان كانت وثيقة مكة هي خطوة لتوحيد العمل وخلق جبهة مواجهة موحدة بالضد من الأعمال الإرهابية التي تقع في مناطق عدة من العراق، وهي وان جاءت افتائية في جوهرها الا ان من الممكن تفعيلها لجعلها بمثابة جبهة حقيقية لها هدف واضح المعالم يشترك مع الجهود الأخرى للحد من العنف الطائفي في البلاد.
وهذا هو الإجراء العملي الأهم، فآلة العنف في العراق تحصد يوميا مئة قتيل وآخر الإحصاءات تشير إلى مقتل 794 ألف عراقي منذ الاحتلال الأميركي.
الوثيقة التي وقعتها شخصيات من مرجعيات العراق الدينية محطة مهمة لإعادة التوازن لهذا البلد وإخماد نار فتنة نائمة يروج لها من يروج وينفخ فيها من ينفخ ويشعلها من يشعل بل ويتفرج عليها من يتفرج.
ان جهداً من هذا النوع يمكن له ان يحقق الكثير اذا تم على أثره خلق جبهة موحدة ضد الإرهاب وخاصة الإرهاب الذي يسعى إلى ان يتجلبب برداء طائفي. التوازن المطلوب في المرحلة المقبلة يكمن في الاتفاق على أولى الخطوات وليس وقف الاقتتال المذهبي فقط بل تحريمه أيضا شرعاً وتجريمه قانوناً لأن ما حدث طيلة سنوات ثلاث بعد الاحتلال كان ولا يزال مأساة وطنية واجتماعية وإنسانية بالدرجة الأولى فاقت كل التصورات، وفاقت بطش الاحتلال.
وثيقة مكة المكرمة التي وقعها شيوخ المذهبين العربيين العراقي المتقاتلين من السُنَّة والشيعة، نأمل أن لا تكون حبراً على الورق. ونرجو أن يكون هؤلاء الشيوخ قد جاءوا إلى مكة المكرمة البيضاء بقلوب بيضاء كوجه مكة المكرمة، وأن لا يكون مصيرها كمصير قرارات الاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق الوطني الذي عقد في القاهرة في نهاية 2005.
وأن لا يلحس الشيوخ العرب العراقيون كلامهم وتعهداتهم وتواقيعهم كما لحس السياسيون العراقيون كل ذلك في ذلك المؤتمر في القاهرة، وعاد العنف في العراق أكثر شراسة مما كان عليه قبل ذلك.
الشيوخ الموقعون على الوثيقة على مرأى من كل مسلمي الأرض بهدف وقف الاقتتال المذهبي، يجب ان يثبتوا للشعب العراقي وللعرب وللمسلمين وللعالم، بأنهم هم الأقدر على ضبط الأمن.
وإشاعة الاستقرار في العراق ،والتفريق بين الإرهاب والمقاومة، فلقد وضعت السعودية أصبعها على الجرح الحقيقي في جنوب العراق ووسطه حين دعت إلى هذا المؤتمر علماء الدين ومشايخه دون السياسيين في هذا الجزء من العراق لاعتقادها ولعلمها أن الاقتتال في هذا الجزء من العراق مذهبي وليس سياسياً.
ان وثيقة مكة من هذا المنظور يمكن لها ان تكون فاعلة في نقاط عدة خاصة وان الحاجة الآن ماسة بشكل غير مسبوق إلى علامة تدل على وجود موقف موحد تجاه قضية ما ووثيقة مكة هي المرتكز في بلورة استراتيجية فاعلة من هذا النوع.
نعم. لكل مسعى يصب في عملية انقاذ العراق وإنهاء مأساته الكبرى، ولكن الحالة التي وصل اليها هذا البلد، أصعب بكثير مما يتصور البعض في إمكانية معالجة تداعياتها بالفتاوى وبدعوة القلوب التي تستقي الدم منذ ما يقارب الأربع سنوات للتمسك بالمحرمات . لأن القضية تتشابك فيها مصالح أطراف عديدة من منظمات وأحزاب ودول إقليمية، جميعها متكالبة على تدمير العراقيين ووطنهم .
كما إن من السذاجة بمكان النظر إلى ما يدور في الساحة العراقية كحالة صراع طائفي، والتعامي عن لولب الصراع الذي هو سياسي بحت . ولما كان الأمر كذلك، فكيف تستطيع وثيقة مضمنة بنداء من رجال الدين إيقاف هذا التطاحن بدون خطة يجري التحرك على ضوئها، في لجم الأطراف المتصارعة.
فلا وثيقة مكة ولا غيرها ستستطيع أن تنقل العراق وأهله من حالة الفوضى والتردي إلى حالة الأمان والسلام والمحبة، إلا إذا تصافت القلوب، وعلت راية الولاء للوطن والإخلاص للشعب، والتخلص من الطائفية والمذهبية والفساد الشامل.
ومن المعروف للجميع بأن مشاكل العراق أكبر من حجم كل الوثائق والمواثيق التي عقدت وستعقد بين الأطراف المختلفة والمتعددة العراقية، لأنه لا يمكن حلها بالخطابات العاطفية واجتماعات المجاملة، وما زالت الدماء العراقية تنزف يوميا، الحل هو بالإرادة الوطنية المخلصة والإيمان بسيادة الوطن واستقلاله.
benhadnal@y