علَم العراق .. هيبة وطنية أم خرقة سياسية ؟د. سيار الجميل

علَم العراق .. هيبة وطنية أم خرقة سياسية ؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ان ما يجري في العراق اليوم حول علم البلاد لهو مثير جداً ومؤلم حقاً، اذ نجد خلافات محتدمة حول شرعية علم العراق، فالعلم رمز هيبة وطنية، يرفرف خفاقا ليجمع الولاء، وتقّدم له التحية من أعلى رأس في البلاد إلى عامة العباد.

ويحدّثنا التاريخ بأن العلم ليس مجرد خرقة بالية تتغّير من زمن لآخر! انه رمز وطني لا علاقة له بنظام سياسي ولا بتركيب اجتماعي، ومنذ القدم عّرفه فيكسيلويدس بأنه «الدليل النادر» أو «القطعة البارزة»، اوجده العراقيون القدماء ليتحّول إلى الاغريق والى شعوب أخرى.

ولينتقل من مجرد ديكور من علامات عسكرية مهيبة إلى رمز وطني تستخدمه دول وأنظمة وأسر حاكمة، ثم غدت الألوان والزخارف والإشكال في البيارق لغة سينمائية لها دلالاتها القوية على ما تتميز به أي بلاد تاريخا وجغرافية، وبقدر ما نشهد بأن العلم شاهد رمز لهيبة من ثوابت لا تتغير في بلاد قديمة، مثل: بريطانيا وتركيا وبلجيكا واليابان منذ قرون طوال..، لكنه غدا عرضة للمتغيرات في الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا والاتحاد السوفييتي والصين وغيرها.

لقد كان للعرب والمسلمين في دولهم القديمة راياتهم الشهيرة، وصولا إلى أيام تكويناتنا الوطنية المعاصرة، وثمة بلاد عربية لها تقاليدها التاريخية الثابتة في إبقاء أعلامها التي تخفق على ترابها الوطني من دون تغيير كالمغرب وتونس والسعودية والإمارات والكويت والأردن ولبنان مثلا.. في حين غيّر العراقيون والسوريون والمصريون والليبيون واليمنيون على وجه التحديد راياتهم عدة مرات، فلقد قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتبديل العلم المصري الأخضر القديم وكل من شعار الدولة والنشيد الوطني .

وهكذا، بالنسبة للزعيم العراقي عبد الكريم قاسم الذي قام بتغيير علم المملكة العراقية القديم بعلم الجمهورية العراقية وشعارها الجديدين، وذلك بعد ثورة 14 يوليو 1958، اذ قضى الزعيم قاسم وقتا طويلا يناقش ذلك مع وزرائه ومستشاريه رموز العراق الجديدة، وخرج العراق بعلم وشعار ولكنهما جميلين احببناهما في طفولتنا!

ومضى زمن قصير اثر اعدام الزعيم قاسم من قبل الانقلابيين البعثيين في العام 1963 ليجتمع قادة البلدان الثلاثة في ما سمي بالوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق، فخفّ المشير عبد السلام عارف ليغير رموز العراق كرة أخرى فاستنسخ رموز مصر الناصرية: علما ونشيدا وشعارا، وكذلك فعلت سوريا، اذ قامت هي الأخرى فغّيرت رموزها .

اما مصر، فان الرئيس أنور السادات قام بعد ان تقّلد حكم مصر بتغّيير اسم دولته فأسماها بـ (جمهورية مصر العربية)وغير نشيده الوطني من (والله زمان يا سلاحي )، اذ استعاد اللحن الشعبي الخالد للموسيقار سيد درويش (بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي) وغير علَم بلاده بسرعة، ليبقى عَلَم عبد الناصر يرفرف حتى يومنا هذا فوق العراق بثلاث نجمات وفي سوريا بنجمتين رموزا لوحدة عربية لا وجود لها مع استفحال حرب عربية باردة تناحرت فيها الاذاعات والصحف بين البلدان الثلاثة.

لقد بقي النشيد الوطني المصري (والله زمان يا سلاحي..) يعزف في العراق من دون تغيير على امتداد عهدي الرئيسين عبد الرحمن عارف واحمد حسن البكر! ومضت سنوات حتى قام الرئيس صدام حسين باستحداث نشيد وطني جديد قام بتلحينه وليد غلميه، وخطّ بيده كلمتي (الله اكبر) على علم العراق فغيرّه للمرة الرابعة من دون الاعتماد على أي نص قانوني.

وكلنا نذكر في العراق على امتداد أكثر من خمس وثلاثين سنة، أن علمين اثنين كانا يرفرفان في سماء العراق: علم جمهورية العراق الحالي وعلم حزب البعث العربي الاشتراكي وهو العلم القديم للثورة العربية الكبرى عام 1916 .

وبعد السقوط والاحتلال عام 2003، صادق مجلس الحكم على علم للبلاد رفضه العراقيون مباشرة كونهم وجدوا شبها بينه وبين علم إسرائيل، فرجع العمل بعلم النظام السابق، ومؤخرا تغيّر شكل كلمتي (الله اكبر) من حروف خطها صدام حسين إلى الخط الكوفي من دون الرجوع إلى أي مادة قانونية لذلك التغيير !! وكم طالبنا منذ ثلاث سنوات إقرار مادة دستورية باستعادة هيبة رمز وطني لواحد من العلمين العراقيين القديمين لشرعيتهما التاريخية، ولكي يحترمنا العالم بعد تاريخ مرير من العبثية الصارخة!

إنني أسأل: هل هناك أمة على وجه الأرض تتلاعب برموزها الوطنية كما تلاعب بذلك العرب في دول مهمة ؟ وهل نجد أمما أخرى قامت بخرق دساتيرها وداست على كل رموزها التي تربت الأجيال في ظلها ؟

ولم أزل أتذكر من عهد طفولتي أيام العهد الملكي أن تقليدا وطنيا كان يجري مساء عند رفع أو إنزال العلم في قلب المدينة على إيقاع عزف الموسيقى، اذ كان الجميع يتوقف عن الحركة تماما في قلب المدينة وفي حالة استعداد شديد ، ولكن هيهات بين ما تربينا عليه من تقاليد وطنية وبين ما يجري اليوم اثر خيانات عظمى بحق رموزنا الشرعية!

ان الرمز الوطني لا تتحكم به الأمزجة الشخصية ولا الأهواء السياسية، ولقد اقترحت أيضا أن تستعاد شرعية كل من علم العراق وشعار العراق القديمين، والاستعادة هنا غير التبديل إذا ما استعدنا رموزنا الوطنية والدستورية الشرعية القديمة بعد كل ما حّل بها من تبدلات سياسية، فهل سيتم ذلك في ظل عبث وتمزق وطني يعيشه العراق ؟ أتمنى حدوث ذلك!

مؤرخ عراقي

www.sayyaraljamil.com

Email