الغربة مفهوم معروف ضمن سياق مألوف، وهو سياق الغربة الجسدية، التي تحدث بوجود إنسان خارج حدود بلاده الجغرافية. والعقل واحد من أكبر نعم الله على الإنسان، الذي أثبت منذ القدم قدرته على توظيف عقله على نحو يميزه حقيقةً عن سائر مخلوقات الله، حتى ان تشابه معها في كثير من الأمور الأخرى.

وفي إضافة مفهوم الغربة إلى العقل إشارة إلى أن المقصود في هذه المقالة هو التعبير عن معنى مختلف للغربة، يأتي من سياق آخر مختلف أيضا عن سياقها الطبيعي، ويحمل ـ بالتالي ـ ملامح مغايرة للملامح المألوفة لمفهوم الغربة الجسدية، ويعبر عن فضاء زماني ومكاني مختلف.

وأهم مواضع الافتراق بين غربة الجسد وغربة العقل هي أن غربة الجسد مرتبطة بالحدود الجغرافية للدول، وبوجود إنسان خارج سياقه المكاني الطبيعي، في حين ان غربة العقل لا ترتبط بهذه الحدود الخارجية، إنما تمسّ ما هو أكثر عمقا من ذلك.

وهو الجانب النفسي والعقلي، إذ يشعر المغترب عقليا بإحساس أشد وطأة ومضاضة من إحساس المغترب جسديا، لأن شعور الأول البعيد عن أهله ووطنه بالغربة والوحشة طبيعي، أما الثاني فقد يكون بين أهله، وفي وطنه.

ومع هذا يشعر أنه في وادٍ والآخرون حوله في وادٍ آخر، مما يدخله في حالة من الغربة والوحدة المريرة، التي لا يمكن التخفيف من حدتها وشدتها على نفسه إلا بتغيير جذري في أحد الطرفين، الغريب أو الواقع المحيط به، وهي معادلة صعبة التحقق إلى حد كبير.

ولهذا النوع من الغربة ملامح مختلفة عن الغربة الجسدية، منها ـ على سبيل المثال ـ، أن يشعر المرء أنه خارج السياق العام حوله، وأنه يفكر بطريقة مختلفة عن طريقة تفكير معظم المحيطين به، لدرجة يمكن أن يصل معها ـ في لحظة من اللحظات ـ إلى أن يتساءل بينه وبين نفسه إن كان هو الذي يفكر بطريقة صحيحة والآخرون يفكرون بطريقة مختلفة.

أو أنه هو المخطئ في طريقة تفكيره والآخرون على صواب، مما يوقعه في حالة من الحيرة الفكرية التي لا يعرف ما الذي يجب عليه فعله إزاءها.

ومن ملامح غربة العقل أن يشعر الإنسان أنه يتحدث مع الآخرين والآخرون يتحدثون معه، ولكن على الرغم من هذا لا توجد قنوات تواصل حقيقية تحمل كلام كل من الطرفين إلى الآخر.

ففعل الكلام يحدث، وفعل الاستماع يحدث أيضًا، ولكن يبقى كل شيء على ما هو عليه، كأننا لم نتكلم ولم نستمع، وتسير القافلة بكل ما فيها من حسنات وسيئات دون أن تلتفت لصوت أولئك الذين قالوا يوما رأيهم، وسُمع منهم مع الاكتفاء بهزّ الرأس بالموافقة حينًا، وبالتأييد لفظيا حينا آخر، وبالصمت القاتل في أغلب الأحيان.

ومن ملامح هذا النوع من الغربة أيضًا أن تقبض على نفسك متلبّسا بحالة الحلم بواقع غير واقعك، تتخيل فيه عالما مثاليا يسود فيه الخير ويندحر عنه الشر.

ولكنك بمجرد أن تنتفض متخلّصا من حالة الحلم تتفاجأ بأن الوضع الحقيقي هو عكس ما حلمت به وتخيلته تماما، فتعيش إحدى حالتين أحلاهما مرٌّ: إما الإحباط التام المؤدي إلى الانسحاب، أو التمرد المؤدي إلى فضاءات أخرى.

ومن ملامح غربة العقل أن يلازم الإنسانَ دائما شعورٌ يقيني بأنه يعيش في زمان ليس زمانه، وأنه موجود في مكان ليس مكانه؛ فالمكان للآخر، الذي كان من قبل -بموازين العقل والمنطق والطبيعة- غريبا.

وأصبح -بقدرة قادر- سيد المكان وصاحبه والعليم بأدق شؤونه، في حين أصبح صاحب المكان الأصلي منبوذا ومرفوضا، وليس أهلاً للثقة، دون معرفة أسباب هذا الانقلاب في زاوية النظر لأمر من أكثر الأمور بداهة.

ومن أشدّ ملامح هذا النوع من الغربة إيلاما، أن تُرَوَّج الأفكار الغريبة والدخيلة على مجتمعاتنا العربية، والمخالفة لديننا وعاداتنا وتقاليدنا، على مرأى من الجميع ومسمع، ولكن لا أحد يفعل شيئا، لأنه لا يملك سوى التوسّل بأضعف الإيمان.

وهو الدعاء، بعد أن استنفد الوسائل المختلفة دون نتيجة، وأسمع صوته الأحياء والأموات، ولكن لا حياة لمن ينادي. والأشدّ إيلاما من هذا هو أن تجد هذه الأفكار الدخيلة قبولاً من المحيطين بك بفئاتهم المختلفة، وتجد نفسَك وحيدا رافضا ومعارضا ومتأكدا أكثر من غربتك عمّن حولك.

هذه بعض ملامح غربة العقل، والتي تعبر عن حالة من الحيرة الفكرية يعيشها أفراد يتنفسون هموما في كل حين، متنقلين في أدق تفاصيل يومهم بين حدّين متناقضيْن يصعب التوفيق بينهما، ولكن الأصعب هو اضطرارهم إلى التعايش مع هذه الحالة.

وهذان الحدّان هما: الصورة المتخيلة لما يجب أن يكون عليه واقعهم، والصورة الحقيقية للواقع من حولهم، وبين هذين الحدّيْن يقف المغترب عقليا، لا يملك من الأمر شيئا سوى أن يخوض حالة الصراع النفسي بين ما هو بداخله وما يحدث خارجه.

وأن يراكم ـ بناء على ذلك ـ إحساسه بالغربة والافتراق عن هذا الواقع دون فعل شيء، أو أن يسعى لتغيير ما يستطيع تغييره بالوسائل الشرعية والقانونية المتوافرة لديه، لأن الهدف الذي يريده هو المصلحة العامة، وهو الهدف الذي لن يتحقق بسوى هاتين الوسيلتين.

جامعة الإمارات