كتبت إحدى الصحف البريطانية مره في فترة السبعينات من القرن الماضي موضوعا حول تذمر بعض الإنجليز من المشكلات التي يعانونها جراء وجود أشخاص من غير بلدهم يقودون السيارات على شوارعهم. ولم يكن ما كتبته الصحيفة متعلقاً بعدم رغبة الإنجليز في وجود الغرباء، على الرغم من عنصريتهم،

بل كان السبب الذي ذكر متعلقا بنوعية السلوكيات الخاصة بالسياقة، والتي كان يمارسها أولئك الغرباء، وهي لم تكن سلوكيات سيئة في حد ذاتها، بل كان التذمر متعلقا بالدرجة الأولى بالاختلاف في السلوكيات الخاصة بالسياقة، وهو ما يسبب لهم إرباكا في الشوارع.

أذكر أننا علقنا على ذلك الموضوع بأنه ربما لا يكون أكثر من موقف عنصري أريد تبريره بمشكلة من هذا النوع، إذ لم نكن ندرك وقتها معنى وجود نمط أخلاقي أو سلوك معين يحكم الجماعات المتجانسة في أي مجتمع ويخلق بينها اتفاقا عاما على ما يصدر منها من تصرفات، ونوعية ردّات الفعل التي تصدر عن الناس في المواقف المختلفة.

أدركت هذه المسألة فقط في السنوات القليلة الماضية حينما بدأت شوارعنا تزدحم بكثرة وتبرز فيها سلوكيات مختلفة لأنواع السائقين والمنتمين لثقافات عديدة.

إن المعاناة اليومية التي يعيشها المستخدم لشوارع مدينتنا هي معاناة ليست بالشيء الذي يستهان به، أو أنه أمر يمر دون تأثيرات خطيرة على صحة الإنسان الجسدية والنفسية. فالساعات الطويلة التي يقضيها الإنسان مضطرا على الشوارع، مخنوقا في وسط الزحام، هي ساعات تسبب الكثير من الأمراض النفسية والجسمانية،

كما تشير إلى ذلك الكثير من الدراسات. فوجود الإنسان لفترة طويلة في زحام الشوارع ينتج عنه الكثير من الأمراض، بعضها جسماني يصل إلى السرطانات، والتي تحدث للإنسان جراء استنشاق كمية كبيرة من الملوثات، وبالذات الملوثات المتطايرة من عوادم السيارات وكنتيجة أيضا للضغوطات النفسية.

وبالمناسبة، هناك خطورة من استنشاق مادة الأوكتين التي أضيفت لبترول السيارات من أجل تخفيف نسبة الرصاص فيه، والرصاص كما هو معروف من الملوثات الخطيرة الضارة بالصحة، لكن الأوكتين ضار هو الآخر.

هناك أيضا، كما هو الحال في بلدنا، خطورة التعرض للملوثات الناتجة عن استخدام أجهزة تكييف الهواء، حيث تخرج من تلك الأجهزة ملوثات ضارة بصحة الإنسان ولا يقتصر ضرر المكيفات فقط في تسببها في رفع الحرارة، وإنما لها ضرر على الصحة العامة نتيجة نفثها لملوثات موجودة في تركيبتها.

هذا من ناحية صحية، أما فيما يتعلق بالجوانب العصبية أو النفسية، فكما تشير الدراسات التي بعضها أجري في مدينة القاهرة والتي لم تعد زحمتنا تختلف كثيرا عن زحمتها، إن التعرض لفترة طويلة للملوثات جراء الزحام ينتج عنه سلوكيات غير طبيعية تتمثل في عدم التحمل،والعدوانية التي قد تصل لحد استخدام العنف ضد الآخرين.

المؤشرات حول الأضرار الناتجة من التعرض للملوثات والتي تضاعفها حالات الزحمة موجودة لدينا ويتمثل بعضها في زيادة نسب الإصابة بالحساسيات الصدرية، وبعضها الآخر في زيادة نسب الإصابة بالسرطانات، وبخاصة لدى الشباب والأطفال.

والذي عاش معاناة تلك الأمراض يعرف حجم العذاب الذي تمر به الأسر أو الأفراد جراء تعرضها أو تعرض عزيز لديها لتلك المعاناة. مما يدفعنا إلى القلق من هذه الأمور.

من المؤثرات الأخرى للزحمة أيضا، والتي لا يجب تجاهلها، لأنها تحمل دلالات سلوكية خطيرة، هي ظهور أنماط سلوكية بين البشر تدفع باتجاه الأنانية وتغليب مصلحة الذات. فالذي يتسلل في الشارع حتى يصل للمكان الذي يقصده في الوقت المناسب، يفعل الأمر ذاته في العمل حتى يحقق أهدافه الشخصية، ناهيك عن سلوك الغضب وفقدان الأعصاب الذي يعانيه.

ولو عدنا لما بدأنا به الموضوع، وهو سلوكيات السائقين المنتمين لثقافات مختلفة، سنجد أن الزحمة في الكثير من الأحيان ليست فقط بسبب وجود عدد مهول من السيارات في الشوارع، أو أن تخطيط الشوراع وأساليب تنظيمها فقط يعاني من شيء من الخلل،

بل سنجد أن الزحمة تنتج أحيانا جراء سلوكيات بعض السائقين. فعلى سبيل المثال، تعيش كسائق أو كراكب سيارة حالة من الانتظار القاسي، وتستنشق أطنانا من الملوثات الموجودة في الهواء، لتكتشف أن الزحمة ليس لها سبب حقيقي أو مقنع، وأنها ناتجة فقط عن وجود سيارة متعرضة لحادث، وأن الكثير من السيارات يكبحها سائقوها ويوقفونها للفرجة على ذلك الحادث، حتى وإن كان بسيطا،

وبخاصة إذا كان الحادث به نساء. من هنا أعتقد أن الدراسة التي وضعتها المؤسسة التي استعانت بها حكومة دبي لدراسة أسباب الزحام في الشوارع وكيفية التخلص منها، والتي استخلصت نتائجها بأن الكثير من الزحام يأتي نتيجة نوعية ثقافة السائقين وسلوكياتهم، هذه الدراسة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار وأن تضع الجهات المسؤولة عن المرور،

وأيضا المسؤولة عن الصحة والبلديات، خططا لمواجهة مثل هذه المشكلات، ولا ننتظر، كما اقترحت الدراسة جيلا آخر حتى يتعود الناس على أنماط سلوكياتهم ويتجانسون فيما بينهم، إذ ان وصولنا لذلك الوقت قد لا يأتي ونحن في حال سليم بدنيا وعقليا.

وكلمة أخيرة، قبل سنوات، وحين كنت أدرس في الخارج، كانت ليلة عودتي إلى بلدي لا أنام فيها ولكن أنتظر اقتراب وقت الفجر، والذي أحب لحظاته كثيرا، ثم أركب السيارة وأتجول في شوارع المدينة وأنا أقول ان هذه المدينة أحبها وأشتاق إليها بنفس محبتي لأهلي واشتياقي لهم.

اليوم أصبحت زيارة هذه الحبيبة مشروعا أتحاشاه كثيرا، ليس فقط لأن هذه الحبيبة قد تبدلت ملامحها علي كثيرا واصبحت تكتظ بالغرباء بشكل كبير أيضا، بل لأن زيارة هذه الحبيبة رحلة عذاب لا نستطيع تحمله، بل صرنا نتخلى عنها ما أمكن.

جامعة الإمارات