ستظل المشاكل التي يعاني منها عدد كبير من الناس، تلك التي يتفاعل معها الرأي العام، وهي قاعدة عامة على مر العصور، وفي مختلف المجتمعات البشرية، سواء كانت تلك المجتمعات في عداد الأمم المتقدمة أو تلك النامية، فعلى سبيل المثال، سيظل الموقف من الحروب وويلاتها هماً للجميع في أرجاء المعمورة، وسيظل هاجس المحافظة على حياة الإنسان من الدمار،

والتعذيب، والغربة، مهيمناً على العقل البشري، ولن يحدث تغيير في هذا الاتجاه، مهما وجدت من تبريرات واهية لدى وسائل الاتصال، سواء كانت في صورتها البدائية أو عبر الوسائل الحديثة، فالنتيجة واحدة، وهي الدمار للروح البشرية، وهذا ما تحاول كل التشريعات والقوانين أن تحد منه.

والإنسان، (وهذه هي المصيبة)، يعاني في كل المراحل، سواء في مرحلة الرخاء، أو الأزمة، ففي الرخاء يعاني من مجموعة من القضايا والهموم قد تكون مختلفة عن مرحلة الأزمة،

إلا إنه يدفع الثمن دائماً، فالتقدم العلمي والتطور التكنولوجي يحمل في طياته فواتير يدفعها الإنسان المعاصر، وفي العصور الغابرة دفع الإنسان والبشرية ثمن التخلف، وبأشكال باتت محفوظة في متاحف التاريخ، وكأن العيش بسلام بات من المستحيلات التي لا يمكن تحقيقها للبشر!!

ومن المفارقات العجيبة، أن بني البشر لديهم معتقدات غريبة، على مر العصور، فعلى سبيل المثال، يعتقد معظم المقيمين على أرض الدولة، أن المواطنين يعيشون في بحبوحة عيش وظل حياة سعيدة، ومتوفرة لهم كل سبل الراحة والاستقرار، وأنهم جميعاً ولدوا ويعيشون في المدينة الفاضلة، وفي المقابل يعتقد المواطنون، أن غيرهم ينعمون بالحياة المثالية،

ومن دون مشاكل تذكر!! إنه الفهم الخاطئ للحياة الواقعية، فكلا الطرفين - وللأسف الشديد - قد وقع في خانة التعميم الخاطئ، أو في أحسن الحالات في ظل العقلية غير الواقعية، حيث إن الواقع يؤكد على عكس ذلك، فلا المواطنون جميعاً يعيشون في بحبوحة عيش بعيداً عن المشاكل ومنغصات الحياة.

فبعضهم يبحث عن حد أدنى من الدخل يوفر له الحياة الكريمة، وبعض الشباب المواطنين يبحثون عن العمل، وعن حقهم في تكوين أسرة سعيدة، فيواجهون بعقبات لا حصر لها، من غلاء المهور، وارتفاع مصاريف الزواج، وصعوبة الحصول على مسكن ملائم،

وغير ذلك الكثير والكثير، من غير المواطنين يبحثون (دون جدوى) عن فرصة لتعليم أبنائهم، أو توفير الرعاية الصحية لهم، بعد أن انتهت وإلى الأبد مجانية التعليم، والضمان الصحي للجميع.

وهذا يعني أن هناك إشكالية في التعامل مع الآخر، ستظل قائمة لفترة طويلة، حيث أن الإعلام وربما بشكل مباشر أو غير مباشر، بصورة عفوية أو متعمدة، لا يعكس الواقع كما هو، بل ربما يساهم في تضليل الرأي العام،

آخذين بعين الاعتبار، أن هذا الإعلام ناطق باللغتين العربية والإنجليزية، وبالتالي فإن الجمهور المستهدف مختلف في كلتا الحالتين. وهمومهما مختلفة تماماً، واتجاهاتهما أيضاً، وكأننا نعيش في مجتمعات لا مجتمع واحد!! وهذه حقيقة، لا يمكن إنكارها.

ومن هنا فإن هموم الناطق بالعربية، والمتعامل بها يختلف تماماً عن ذلك الذي يقع ضمن الثقافة الناطقة باللغة الإنجليزية. وفي هذا السياق تأتي الثقافات الفرعية للناطقين بلغات مختلفة في الدولة، والتي لا يفهمها إلا التراجم، كما قال المتنبي، حيث هناك الناطقون بالأوردية وبالباشتونية وغيرها من اللهجات الآسيوية.

فنحن نعيش في ظل ثقافات مختلفة تماماً. سواء من حيث المفردات أو الفحوى، وربما حتى الاهتمامات، ومن هنا ينتج عن ذلك أنماط مختلفة من التفكير، وحتى طريقة الحياة اليومية،

حيث إن الثقافة العربية لا تزال تعيش في ظل التقليدية، والمغطاة، أو التي يغطيها جلد ناعم، أدق من خيوط الحرير بالثقافة العصرية، إلا أنها تقليدية، محافظة، في كثير من الأمور الحياتية اليومية،

في حين إن الثقافة للناطقين بالإنجليزية، هي نتاج للمجتمعات الصناعية، أو ما بعد الحداثة، وهي في المحصلة النهائية ثقافة المجتمع الرأسمالي بكل أبعاده، أما الثقافات الأخرى فهي نتاج مجتمعات مختلفة زراعية، أو دون ذلك أحياناً.

ومن هنا يبرز التناقض بين تلك المنظومات من القيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي التي تجعل عملية التفاعل تكاد تكون معدومة إلا بين أوساط النخب من الأطراف، فما هو الجامع بين النقاب والبكيني والوزار والساري!! وفي ظل تقلص الطبقة الوسطى ذات الاتجاه التوافقي،

سيظل التناقض واضحاً، وملموساً بين هموم هذا وذاك، ومن هنا لا يمكن ان يتم التفاهم بشكل عقلاني ومنطقي بين تلك الأطراف إلا في استيعابها جميعاً وتعايشها في أجواء من تقبل الآخر والتسامح، والإيمان بأن الإمارات كدولة ووطن ونظام هي الوعاء الذي يحتضن الجميع،

وأن بقاءهم جميعاً رهن بهذا التعايش الفعال الذي يبني نهضة الإمارات المعاصرة التي قد تصبح مثالاً يحتذى لتعايش الثقافات وتفاعلها وإنتاجها مجتمعاً عصرياً خلاقاً ومبدعاً وفعالاً ومتقدماً.

-- د. محمد المطوع -- رئيس وحدة الدراسات ـ البيان -- almutawa_mohammed@hotmail.com