يحسب للحضارة الإسلامية العربية في التاريخ البشري، من قبل بعض أعدائها قبل أصدقائها، أنها لعبت دوراً مهماً في الحفاظ على التراث الفكري والحضاري اليوناني من الهجمة الرومانية الشرسة في التاريخ القديم، والتي كانت تريد القضاء على دولة الإغريق والقضاء على كل ما تمثله من حضارة ومن تاريخ (في دور شبيه بالدور الذي يلعبه الطغيان الأميركي الآن وهو يحاول القضاء على الفكر الإسلامي وما يمثله من مرتكزات من خلال السعي للقضاء على حاضرة الإسلام والعرب، بغداد، وما تمثله من تاريخ). فكما يشير الكثير من الفلاسفة والمؤرخين الغربيين، إلى أن الحضارة الإغريقية وما خلفته من علوم، سواء كانت علوماً طبيعية أو فلسفية، لم يكن لها أن تبقى لو لم يصنها ويحافظ عليها ويحرسها من الفناء علماء المسلمين وبعض قادتهم. وانهم، أي المسلمين، هم الذين أوصلوا الفكر اليوناني إلى أوروبا، بعد أن حافظوا عليه سنين طويلة، واشتغلوا عليه أيضا بالمجادلة والتمحيص والتطوير . فالفكر اليوناني عندما وصل إلى أوروبا وصلها مع أعمال ابن رشد، والذي أسموه في الغرب أفيروس، وابن سينا، والذي حرفوا اسمه أيضا إلى أفيسينا، (ربما لتتشابه الأسماء مع الأسماء اليونانية) وتم تدريس ذلك الفكر في المدارس والجامعات الأوروبية حتى وقت قريب، بما احتواه من إسهامات إسلامية وعربية.
الحضارة الإسلامية لم يعرف عنها في جوهرها أنها كانت حضارة إقصاء بل حضارة احتواء. فبما ارتكز عليه الإسلام من احترام للاختلافات، حتى في العقيدة، وما ارتكز عليه من احترام للعلم ونشره إلى العالم، أسهم الإسلام في صيانة العلوم البشرية والعمل عليها وتقديمها للآخرين. فالذي يقرأ ابن رشد يعرف مدى تأثره بأرسطو، والذي يقرأ ابن سينا، سواء في علومه الطبية أو رؤاه الفلسفية يعرف مدى تعامله مع التراث اليوناني القديم وأخذه بعضاً من علومه وفكره منه، وكذلك غير هؤلاء من علماء المسلمين الذين أخذوا من الفكر اليوناني واشتغلوا عليه، وبعضهم تأثر بفلسفته. والحضارات في طبيعتها تتلاقح وتأخذ من بعضها البعض حيث لا توجد حضارة خالصة لم تأخذ من غيرها.
فحتى اليونان القديم، وكما تشير إلى ذلك بعض الدراسات، قد أخذ من الحضارة المصرية القديمة من خلال هجرة بعض فلاسفة اليونان إلى مصر واشتغالهم على العلوم المصرية الفرعونية، ومن ثم ترحيلها إلى بلدانهم. هكذا هو شأن الكون، الأخذ والعطاء. فحضارة أوروبا الحديثة اليوم تدين بجذورها لأثينا وأثينا قد أخذت من غيرها ونحن أخذنا منهم، وسيبقى حال البشرية هكذا.
الذي جعلني أتناول هذا الموضوع اليوم هو تقرير شاهدته في إحدى محطاتنا التلفزيونية حول سعي المسلمين في اليونان إلى إيجاد مساجد لهم هناك، ومدى المعاناة التي يعيشونها جراء افتقادهم لأماكن تليق بعبادتهم وتتسع لهم كعدد. وإن أولئك المسلمين لا يجدون تشجيعا لطلبهم من الحكومة اليونانية، مما يشكل معاناة كبيرة لهم. لقد أعاد لي هذا التقرير التفكر في مدى اتساع الهوة الثقافية التي تفصلنا عن بعض الدول الغربية التي كانت لنا معها أساليب من التعاطي لو اشتغلنا على إحيائها وتعزيزها لكسبنا أصدقاء لنا وأناساً يحترموننا ونحترمهم ويناصرون قضايانا ونسندهم في قضاياهم. خاصة وأن بلدا كاليونان معروف عنها أن شعبها يحمل نزعة عالية من التحيز للفكر الإنساني بشكل عام، ولأفكار التحرر وللأفكار المناهضة للقمع والعنصرية والاستعمار بشكل خاص، وان تقدير هذا البلد للثقافات تقدير عال.
وهذا كله يسهم في إيجاد أرضية خصبة للحوار وللتعامل والتواصل فيما بيننا وبينهم، فهل نجد في برامج هيئاتنا الثقافية من ينظر لهذه المسألة بنظرة جدية ويتعامل معها من خلال برامج ثقافية مشتركة تعزز التفاهم والحوار، خاصة وأننا ندرك أن أكثر المواقف الأوروبية المعادية للإسلام وللعرب تأتي من جهل شعوبهم بالحضارة العربية والإسلامية وثقافاتها، وأن مواقفهم لا تقوم إلا على وهم الاختلاف الجذري بيننا وبينهم وعلى تصور أن المسلمين معادون للحضارة الغربية بشكل عام وانهم لا يحملون احتراما لها.
وهذا أمر يتنافى مع حقيقة الإدراك الفكري للإسلام، والذي يقوم في أسسه الحقيقية على احترام الاختلافات واحترام البشرية جمعاء، حيث «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، فهل نوصل للغرب هذه الفلسفة وهل نسعى لتعريفهم بنا كبشر لنا إسهاماتنا الثقافية في نسيج الحضارات ولنا دور مهم في الحفاظ على التنوع البشري وصيانته واحترامه.
إن البحث فيما قدمته الحضارة الإسلامية للفكر الأوروبي، وإحياء ذلك التراث والعمل على نشره، من شأنه أن يوجد جسورا من التفاهم والاحترام بيننا وبين الغرب، كشعوب تحديدا، وليس كقيادات تحكمها المصالح الآنية، حيث إن طمس ذلك التاريخ وعدم العمل على تعزيزه قد أسهم بشكل مباشر في تعزيز خرافة أن العرب والمسلمين خاصة، يشكلون قوة معادية للغرب ولحضارته، وهو عكس ما يحمله ذلك التراث من معان.
من جانب آخر، هناك في الغرب من العلماء والفلاسفة من يعرفون ذلك التاريخ ويقدرون تلك الإسهامات ويعطونها حجمها الحقيقي، لكنهم في الغالب هم الذين لا يحظون باهتمام مسؤولي إداراتنا الثقافية وتقديرهم، بل التقدير والحفاوة تذهب أحيانا لأناس من الذين ليس فقط لا يعرفون شيئا عن الإسهامات الفكرية والعلمية لعلماء المسلمين في الغرب، بل هم من الذين إذا عرفوها طمسوها وأنكروها وممن يحملون أحيانا عداء للإسلام وللعرب. وكما يقولون في أمثالنا الشعبية «اللي عوقه من بطنه وين بتيه العافية» أي الذي يشكو من بطنه لا يعرف العافية، فعسى أن نتعافى في بطوننا.
جامعة الإمارات