عندما لا تموت الملوك ـ د. محمد سلمان العبودي

عندما لا تموت الملوك

ت + ت - الحجم الطبيعي

من مساوئ البشر أنهم لا يذكرون أحياءهم إلا بعد موتهم. ولا يحتفلون بمآثرهم إلا بعد أن يطويهم الردى إلى أبد الآبدين. وخاصة هؤلاء المخلصين لأوطانهم ولشعوبهم ولقضايا أمتهم.

وبين عيدين وفي مدى 365 يوماً غيب الموت خمسة من زعماء العرب الكبار ممن لعبوا دورا مهما في تشكيل تاريخ بلدانهم وفي تحديد مصير شعوبهم، كل بطريقته الخاصة.

زايد وعرفات وفهد ومكتوم وجابر. وعندما يموت زعيم ما يلتف حول نعشه معظم زعماء العالم أو ممثلوهم. وكل زعيم تدور أثناء تشييع الجنازة الخشبية التي يحملها أمامه مجموعة من الرجال، تدور في فكره وأمام ناظريه مشاهد الجنازة التي قد تقام مراسمها له بعد موته.

وربما تصور بأن هؤلاء الذين هم بصحبته اليوم قد يسيرون خلف نعشه غدا. وهو يعلم في قرارة نفسه بأنه ميت لا محالة! إلا أنه يجهل مكانه وتوقيته. مع ذلك، وبعد انتهاء مراسم التشييع تغيب عن باله تلك الحقيقة المرة ويعود إلى ممارسة سلطاته وكأنه سيبقى حاكما ورئيسا وزعيما وملكا للأبد.

بينما نتوقع من تلك المراسم أن يستعيد ذلك الزعيم من خلالها رشده ويبدأ في إعداد نفسه للموت لكي يترك من بعده سيرة طيبة محفورة في قلوب شعبه ومن حوله وأن لا يلتفت إلى مصالحه الخاصة وهي مصالح أو منافع مؤقتة زماناً ومكاناً وهو الذي أؤتمن على مصالح رعيته.

والكل يعلم بأن الزعماء والقادة الذين تركوا بصماتهم في قلوب شعوبهم قلة، والزعماء الذين تمنت شعوبهم أجلهم قبل أوانهم أكثر من أن يحصوا عددا. فمن يستطيع نسيان المهاتما غاندي، ونهرو وتيتو وجمال عبد الناصر وخروتشوف وونستون تشرشل والجنرال ديغول ومحمد علي جناح وغيرهم.

في العام الفائت رحل عنا قائد هذا البلد الذي بنى دولة وأعد رجالا ورحل وهو لا يحمل معه إلا كفنه ولا يملك إلا مساحة قبره وحب شعبه. ولكن من منا يجرؤ أن ينكر الدور الذي لعبه في تأسيس هذه الدولة واستقرارها واستمرارها أو ينكر فضله عليه؟!

واليوم يرحل عنا زعيم دولة أخرى لها فضل لا يقل عن فضل دولة الإمارات علينا:

إنه أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح. لقد كانت إماراتنا قبل الوحدة تعيش في حالة اقتصادية مأساوية. وكان أهالي المنطقة لا يملكون إلا قوت يومهم. وكانت الكويت تقع على مسافة 900 كم منهم. وقد بدأت تثرى شيئا فشيئا بعد اكتشاف النفط فيها عام 1938م.

وخاصة عندما تقاسمت عام 1951عائدات النفط مع الشركات صاحبة الامتياز فيها. وبمجرد أن بدأت الكويت تدك قواعد التطوير الداخلي لديها حتى التفتت إلى جاراتها الخليجيات ومنها الإمارات السبع التي تقع على ساحل الخليج العربي.

وإذا بها تقرر أن تتقاسم معها قطعة الخبز. وإذا بها تقوم بإنشاء المدارس والمستشفيات مع كافة الخدمات المتعلقة بها وتشق لها الطرقات.

إن الأجيال (دون تفرقة بين أبناء الفقراء وأبناء الحكام الذين جلسوا جنبا إلى جنب على مقاعد الدراسة) التي عاشت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وإلى بداية قيام الاتحاد عام 1971 استفادت من فرص التعليم التي وفرتها لهم دولة الكويت.

ولم يتوقف الأمر على بناء المدارس بل تعداه إلى توفير المعلمين والكتب الدراسية بل وحتى الكراسة والقلم والمسطرة والممحاة وحتى الزي المدرسي والحذاء!

بل حتى إلى توفير وجبة الإفطار الصباحية لكل طالب وطالبة. بدءا من الصفوف الابتدائية الأولى إلى الالتحاق بالجامعات العربية المختلفة (القاهرة، بغداد، بيروت، دمشق، الكويت) وفق رغبة الطالب نفسه، بل حتى سكنه كان موفرا له، بل حتى مكافأته الشهرية لشراء احتياجاته الصغيرة.

وذلك إلى أن يتخرج ويبدأ في تكوين وإعداد نفسه. ترى كم هو عدد الوزراء والسفراء والوكلاء والمديرين والمهندسين والأطباء ورجال الأعمال من الإماراتيين الذين درسوا وتعلموا وتخرجوا وعولجوا بفضل دولة الكويت؟

كل ذلك كان يتم دون أي مقابل ودون منة ودون ذكر ودون تردد ودون تأخير وكأن ما كان يقدم هو أقل من الواجب الذي يستحقه أبناء هذه المنطقة!!

علاوة على ذلك، لم تتوان دولة الكويت وخاصة في عهد الشيخ عبد الله السالم الصباح وأخيه صباح السالم الصباح ومن جاء بعدهما عن توفير خدمات العلاج المجاني لمواطني المنطقة. فأقامت المستشفيات ووفرت كافة مستلزماتها بدءا من كادر الأطباء إلى الدواء المجاني!

ومازالت المستشفيات تحمل اسم هذه الدولة كمستشفى الكويت في الشارقة ومستشفى الكويت في دبي! ومما يستحق الذكر في هذا الموضوع هو أن تلك المدارس والمستشفيات لم تكن تقل في مستواها عن تلك التي تؤسس في دولة الكويت نفسها!

إن سياسة حكام الكويت قامت منذ القدم على الحكمة والحدس واستباق الأحداث. لذا لا نستغرب أن تكون الكويت واحدة من أولى الدول العربية التي قام نظامها على أساس الشورى (أو كما يطلق عليها الغرب Democratia) وهي في بداية تأسيسها؟

ولا ندهش أمام المستوى الثقافي الذي وصلت إليه الكويت وهي دولة صغيرة مساحة وسكانا، فبرز منهم الشعراء والروائيون وكتاب المسرحية والصحافيون المتميزون.

ترى كم منا يعلم بأن دولة الكويت هي أول دولة تبث برامجها التلفزيونية في المنطقة؟ وأنها قدمت أفضل الممثلين على الإطلاق سواء في مجال التراجيديا أو الكوميديا بل حتى في برامج الأطفال؟! وأنها ارتقت في مجال المسرح قبل أن نسمع به؟!

وكم منا يعلم بأن صقر الرشود ذلك المخرج المسرحي الذي يعتبر من رواد المسرح العربي والذي ترك الكويت في السبعينات وجاء إلى دولة الإمارات للمساهمة في الارتقاء بالمسرح الإماراتي، قد توفي على أرضها؟

لقد كتب على باب قصر الحاكم في الكويت: (لو دامت لغيرك لما وصلت إليك)، ليروها عند دخولهم للقصر وعند خروجهم منه، وبتلك الحكمة حكم سكان ذلك القصر الكويت إلى يومنا هذا، فزهدوا في الكرسي الذي يجلسون عليه لأنه زائل ووضعوا نصب أعينهم الاهتمام بالإنسان الذي يسكن في داخلهم. فجاؤوا كأروع ما يكون عليه الحاكم مع شعبه!

dralaboodi@gmail.com

جامعة الإمارات

Email