حدث في مونتريال الكندية ـ محمد الخولي

حدث في مونتريال الكندية

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاعت في أدبيات القرن العشرين عبارة جوزيف جوبلز الشهيرة: كلما سمعت كلمة «ثقافة» تحسست مسدسي. والحق نقول من جانبنا أننا كلما سمعنا عبارة «خارطة الطريق» تحسسنا شكوكنا وراودتنا هواجسنا إزاء مصداقية مثل هذه المقولات والطروحات.

نفس الشعور الذي يراود المحلل السياسي المهتم بشؤون البيئة العالمية بالذات عندما يقرأ البيان الختامي الصادر عن قمة مونتريال المعقودة مؤخرا في كندا لبحث أخطر علة بيئية ما برحت تصيب الكرة الأرضية التي نعيش على متنها ولا تملك البشرية بديلا عنها وهي آفة التساخن .

كما يسميها البعض أو أثر الصوبة أو الدفيئة (غرين هاوس) كما يصفها البعض الآخر أو ظاهرة الاحتباس الحراري كما نفضل أن نسميها جريا على ما شاع مؤخرا من أوصاف في الدوريات المتخصصة وفي الصحف السيارة على السواء.

ومثلما تجتاح أنواء المصالح السياسية، الأميركية والصهيونية - قضية خارطة الطريق وتصادر على إنشاء الدولة الفلسطينية المأمولة - فإن المصالح السياسية - العالمية هذه المرة، بل هي الكوكبية أحيانا - تقطع الطريق على المحاولات التي ما برح العالم يبذلها من أجل معالجة داء الحمّى التي أصابت كوكب الأرض من جراء تصاعد حجم.

وتفاقم نوعية الإنبعاثات الكربونية بالذات الناجمة عن عوادم الأنشطة الصناعية، مما أدى إلى ارتفاع حرارة الأرض وهي ظاهرة غاية في الخطورة تنجم عنها بدورها عواقب أخطر وأدهى ليس أقلها تعرّض سواحل قارية شتى للإغراق وتعرض كيانات بل دول وأقطار جزرية للغرق .

ومن ثم الاختفاء تحت مياه المحيط فضلا عن تعرض المخزون الجليدي في قطبي البسيطة الشمالي والجنوبي حيث يتوافر أكبر وأثمن مستودع للمياه العذبة في عالمنا - تعرض هذا الرصيد الحيوي النفيس لخطر الذوبان ومن ثم خطر التسرب والضياع.

وإذا كان الوعي بهذه النوعية من الأخطار الفادحة مازال قاصرا على صعيدنا العربي وما برح مقتصرا ربما على قلة من المفكرين والأكاديميين والمثقفين، فإن هذا الوعي الأيكولوجي كما قد نسميه قد ذاع وانتشر على نحو ما نلاحظ في أقطار شتى من العالم - الصناعي بالذات:

تأمل مثلا حجم المظاهرات الحاشدة التي واكبت انعقاد قمة مونتريال التي ألمحنا إليها حيث شارك في تلك العاصمة الكندية الناطقة بالفرنسية أكثر من 40 ألف شخص تحت شعار «المسيرة القومية من أجل المناخ» بناء على دعوة 25 من الجماعات العلمية والطلابية والنقابية المدافعة لا عن بيئة هذا القطر أو حتى تلك المنطقة أو القارة..

بل عن بيئة كوكب الأرض بشكل عام.. وفي نفس السياق شهدت لندن مظاهرة ضمت الآلاف من الأفراد الذين وصفوا أنفسهم بأنهم «أصدقاء الأرض» فيما لم يتورعوا عن وصف رئيس وزراء بريطانيا بأنه «مجرم مناخ» على وزن «مجرم الحرب» المدان بالطبع في متون القانون الدولي.

ولما كانت الدول الجزرية - الصغيرة بالذات على نحو ما أسلفنا. هي أشد الأطراف المعرضة لأخطار التساخن أو الاحتباس الحراري وخاصة إذا ما أدى هذا الاحتباس إلى ارتفاع مستوى سطح البحر..

فلم يكن غريبا أن ينهض رئيس إحدى هذه الدول فيرفع صوته في نبرة غضب ساخط واحتجاجي على ما جنته أيدي الدول الصناعية الغنية على صحة الأرض وسكانها، سواء أهل الأقطار البرية الذين شاءت حظوظهم أن يعيشوا مستقرين فوق اليابسة أو الذين اختارت لهم الأقدار أن يعيشوا في دولة - جزيرة عائمة في مياه البحر أو على سطح المحيط.

هكذا تواكبت المظاهرات العارمة التي أشرنا إليها مع التصريحات شبه النارية التي أطلقها مؤخرا فيديل كاسترو رئيس وزراء كوبا، الدولة - الجزيرة كما هو معروف - إذ كان يحضر مؤتمر مجموعة كاريكوم الكاريبية الخمس المعقود في بربادوس وهي بدورها دولة - جزيرة وفي هذا السياق قال الزعيم الكوبي الذي يدق بإلحاح باب الثمانين:

-إن النفايات الهائلة المتخلفة عن المجتمع الاستهلاكي الرأسمالي (في الغرب - الصناعي) لا يقتصر خطرها على اقتصاد العالم وحسب، بل يمتد هذا الخطر الجسيم إلى حيث يهدد بيئة العالم كله بفعل ما ينجم عن تلك الأنشطة من انبعاثات غازية.

ورغم أن رئيس كوبا دأب كما نعلم على تسييس القضايا وخاصة في غمار صراعه الطويل والممتد قرابة 50 عاما مع جارته الكبرى - الولايات المتحدة - إلا أن خبراء البيئة والمناخ مازالوا يأخذون تحذيراته تلك على محمل الجد الشديد ولاسيما في ضوء التزايد المأساوي لمعدلات الأعاصير والعواصف التي تشهدها مناطق الأطلسي والكاريبي.

وقد بلغت في الآونة الأخيرة وحدها 14 إعصارا كان أشدها إعصار كاترينا الشهير الذي بلغت خسائره أكثر من 80 مليار دولار بخلاف الأرواح البشرية التي أزهقت، وحيث ارتفعت درجات الحرارة بمقدار درجتين على المقياس المئوي.

ومن شأن متابعة وقائع مؤتمر مونتريال الأخير إن تلفت أنظارنا إلى أن ثمة مواجهة لا تخفي على المحلل السياسي تجلت ضمن أجواء المؤتمر بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية التي مازالت تتلمس طريقها نحو آفاق التقدم من خلال التصنيع.

في إطار هذه المواجهة تجلت أيضا ظاهرة استقطاب جمعت على سبيل المثال بين أميركا واستراليا وكلتاهما رفضتا الالتزام ببنود بروتوكول كيوتو الشهير التي تقضي بتحجيم الانبعاثات الناجمة عن الأنشطة الصناعية عند حدود معينة. وكان من نتائج هذا الاستقطاب أن ناشد رئيس وزراء كندا - الدولة المضيفة واشنطن - أن تصغي.

كما قال، إلى صوت الضمير العالمي.. في حين وصلت الوزيرة البريطانية مارجريت بيكيت إلى حد التلميح إلى أن على العالم أن ينتظر نهاية الولاية الحالية - الأخيرة للرئيس بوش وبعدها يمكن أن تراجع واشنطن موقفها المتشدد سواء إزاء اتفاقية تغيير المناخ (اتفاقية كيوتو) أو البروتوكول الملحق بها تنفيذا لبنودها.

في ضوء هذه المواقف لاحظ المراقبون الذين تابعوا المؤتمر أن أميركا بالذات كانت في عزلة أو أنها كانت في مرمى النيران على نحو ما كتب صحفي أميركي متخصص هو أندرو ريفكن (نيويورك تايمز، عدد 10/12/2005).

وقد تكاثفت هذه العزلة من خلال تصرف الدكتور هارلان واطسون مندوب أميركا لدى مؤتمر مونتريال حين انسحب عند منتصف ليل الجمعة (9/12) من جلسة المؤتمر..

وإن كان قد عاود المشاركة في فعالياته الختامية آية على ما أمكن التوصل إليه من توافق بين آراء الدول الصناعية وبين الأقطار النامية التي تحدثت الهند باسمها فطالب مندوبها السيد «يموتو راجا» بأن تعطَى الأولوية للتنمية الاقتصادية والقضاء على آفة الفقر في بلدان الجنوب.

وربما جاء توافق الآراء، وربما تولدت حكاية خارطة الطريق إياها، بعد أن توصل المندوبون إلى حلول وسط مع مندوب أميركا الذي كان قد احتج على عناوين البيان الختامي لمؤتمر مونتريال ورفض استخدام تعبير «آليات» ربما لأنه يحمل إيقاعا ملزما بالتنفيذ فكان استخدام تعبير «فُرص» ربما لأنه أخف وطأة أو اقل التزاما.

ونحسب أن الاستقطاب الدولي الذي شهدته مونتريال لم يجد حلا سوى باللجوء إلى الأسلوب البيروقراطي المعروف.. وهو الدعوة إلى اجتماعات جديدة.. ومعاودة إحالة القضايا على محافل ومنتديات جديدة، تماما مثل أسلوب إحالة القضايا الشائكة على لجان تنكّب على التداول بشأنها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

ورغم أن فعاليات مونتريال جاءت دون الآمال المعقودة.. إلا أنها بدأت كما نتصور رحلة الألف ميل إذ اقتربت من وضع مشكلة التساخن الكوكبي في بؤرة اهتمام العالم..

ولأنها أيضا جهدت في تمديد العمل ببنود ميثاق كيوتو والضغط على أميركا للعمل على أساسه ولاسيما بعد نشر تقارير منظمة الصحة العالمية التي ربطت بين ظاهرة الاحتباس الحراري وتلوث البيئة وبين ظهور أمراض وبيلة مستجدة مثل سارس وأنفلونزا الطيور.

هذا فضلا عن الدعوة إلى مؤتمر جديد على نطاق أضيق وأكثر تركيزا.. يصار إلى عقده يومي 11 و12 يناير المقبل ويضم أشدّ الدول تسبّبا في تلويث بيئة العالم.. وبالمناسبة فهذه الدول هي: أميركا واستراليا والصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية و.. كان الله في عون كوكب الأرض.

كاتب مصري

Email