ثقافة الوجود المهدّد.. والدور الغائب

ثقافة الوجود المهدّد.. والدور الغائب

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثقافة أي شعب هي تعبير عن وجود ودور معاً. فلكلِّ جماعة بشرية ثقافة مهما كان حجم هذه الجماعة، لكن دور هذه الثقافة يتحدَّد تبعاً لقوة تأثير هذه الجماعة البشرية.

وقد كان للعرب ثقافة خاصة بهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية، لكن وجود هذه الثقافة كان محصوراً جغرافياً في إطار البقع السكانية التي تتحدث اللغة العربيَّة. وكانت طبيعة هذه الثقافة تتَّصف بما كانت عليه القبائل العربيَّة من سمات وخصائص.

أمَّا بعد ظهور الدعوة الإسلامية، فإنَّ الثقافة العربيَّة أخذت مضامين جديدة حملها الإسلام بحكم نزول القرآن الكريم باللغة العربيَّة، وأيضاً من خلال بدء الدعوة وانتشارها عبر روَّاد عرب حملوا هذه الرسالة إلى بقاع عديدة في العالم، لا توجد فيها قبائل عربية ولا ينطق أهلها باللغة العربيَّة.

وفي ذلك الحدث التاريخي، خرجت الثقافة العربيَّة، من دائرة العنصر والعرق إلى الدائرة الحضارية بمضامينها الإسلامية. أيضاً من نتائج ذلك، أن الثقافة العربيَّة خرجت من دائرة التعريف بها وجوداً إلى موقع متميّز دوراً ارتبط ويرتبط على الدَّوام بلغة القرآن الكريم.

وهذه علاقة خاصَّة جداً بين الثقافة العربيَّة والدعوة الإسلامية، تتميَّز بها الثقافة العربيَّة عن غيرها من الثقافات العالمية بما في ذلك الثقافات المنضوية تحت راية الإسلام وحضارته. وهذه العلاقة الخاصة بين الثقافة العربيَّة كإطار، وبين الحضارة الإسلامية كمضمون.

وإن كانت تعني تمييزاً لا تمايزاً عن باقي الثقافات في العالم الإسلامي، لكنها أيضاً تعني دوراً مميّزاً لها ولمن ينتمون إليها (أي العرب)، ففي الحفاظ على الثقافة العربيَّة ولغتها، حفاظ على لغة القرآن الكريم وتسهيل لفهمه الصحيح ولاستيعاب مضامينه.

لكن الثقافة العربيَّة، كغيرها من ثقافات العالم، يندمج فيها، عبر حركة الزمن، الصالح والطالح معاً، وتكون مهمَّة القائمين على هذه الثقافة والحاملين لها، إجراء عملية الفرز بين ما هو إيجابي في الأصل وبين ما هو سلبي في الإلحاق. فالثقافات، مثلها كمثل الأفكار الإنسانية كلّها، يلتحق بها ما هو مشوِّه أحياناً لطبيعتها ولمميّزاتها الأساسية.

أيضاً، إنَّ الثقافة العربيَّة، وكغيرها من الثقافات، يرتبط تأثيرها بدور الجماعة البشرية التي تنتمي إليها. فحينما كان العرب ينشرون الدعوة الإسلامية، كانوا يتميزون بأنهم حملة رسالة حضارية للعالم أجمع، ليس من أجل نشر الثقافة العربيَّة أو اللغة العربيَّة.

بل في سبيل المضمون الذي حملته هذه الثقافة ـــ الوعاء في كتابٍ كريم وقيم ومبادئ حضارية، فانتشرت الثقافة العربيَّة ـــ أو في الحد الأدنى اللغة العربيَّة ـــ حيث انتشرت الدعوة الإسلامية.

فالانتشار الثقافي عالمياً يرتبط بقوة تأثير ودور الجماعة التي تحمل هذه الثقافة. وذلك قد يتمّ من أجل خدمة رسالةٍ دينية وقيم حضارية (كما كان الحال بين الثقافة العربيَّة والحضارة الإسلامية).

أو قد يحصل بفعل مصالح دولية وأسلوب قهري استعماري، كما انتشرت اللغة الإنجليزية سابقاً، واللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية أيضاً في أماكن أخرى من العالم.

فانتشار اللغة الإنجليزية إلى مشرق الأرض ومغربها حصل حينما كانت بريطانيا »الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس«. ثم بعد عشرات السنين من التحرّر من الاستعمار البريطاني، ما زالت استراليا، ودول في شرق آسيا، وغيرها من الدول شرقاً وغرباً، تأخذ بالعادات البريطانية وتقاليدها الاجتماعية، إضافة إلى لغتها الانجليزية.

واليوم نجد أنَّ انتشار الثقافة الأميركية (ومن ضمنها اللغة الإنجليزية طبعاً) أصبحت هاجساً حتى لدول تنتمي إلى الحضارة الغربية نفسها لكنها تتمايز ثقافياً عن ثقافة أميركا ولغتها.

إذن، كلَّما كان لأيَّة جماعةٍ بشرية أو أمَّة دور فاعل (بمضامين حضارية أو بأساليب هيمنة)، كلَّما انتشرت واتَّسعت ثقافة هذه الأمَّة و»تعولمت« على مرِّ السنين.

أمَّا حال العرب اليوم فهو يسير من سيئ إلى أسوأ، وتعاني أمَّتهم الآن من انقساماتٍ وصراعات انعكست على الثقافة العربيَّة نفسها، لذا نجد الثقافة العربيَّة مهدَّدة الآن ليس فقط من حيث الدور بل من حيث الوجود الفاعل نفسه.

فالثقافة العربيَّة هي الباقي الوحيد الآن كجامع مشترك بين العرب. والخطر عليها كوجود لم يبدأ فقط مع وجود الاحتلال الأوروبي للمنطقة في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، بل بدأ مع سقوط الريادة العربيَّة للعالم الإسلامي، وتسلّم السلطة العثمانية لدورٍ كان أولى بالعرب الحفاظ عليه فأخذه منهم الجيش الانكشاري.

وقد انتهـت قرون السيطرة العثمانية بمحاولة تتريك العرب في مطلع القرن العشرين، وفرض اللغة التركية كبديلٍ للّغة العربيَّة، ثم ذهب الأتراك إلى ديارهم ليعلن كمال أتاتورك تخلي الأتراك أيضاً عن لغتهم وثقافتهم وتحويلها إلى الأحرف اللاتينية وإلى نظم الحياة الغربية.

وكان من المؤمل لدى الورثة الإنجليز والفرنسيين للتركة العثمانية، أن يتخلى العرب أيضاً عن لغتهم وثقافتهم وأن يستبدلوها (كما فعلت تركيا ـــ أتاتورك) بالأحرف اللاتينية والثقافات الغربية، لكن الترابط العضوي بين لغة العرب ولغة القرآن الكريم، بين الوعاء الثقافي للعرب وبين مضمونه الحضاري الإسلامي، منع ذلك بشكلٍ كبير.

إضافة إلى الدور المهم الذي قام به العديد من الأدباء العرب ـــ وكان معظمهم من المسيحيين العرب ـــ الذين كانوا يحرصون على الثقافة العربيَّة ويشتركون مع المسلمين العرب في صنع الحضارة العربيَّة الإسلامية.

ورغم كلِّ محاولات »الفرنَسة« و»الأنجلزَة« التي تمَّت في النصف الأول من القرن العشرين.. ورغم تجزئة المنطقة العربيَّة بعد سقوط الحقبة العثمانية ومحاولة المستعمر الفرنسي والإنجليزي تغليب نمط الخصوصيَّات المحليَّة لأبناء الدول العربيَّة على ثقافتهم العربيَّة المشتركة... رغم ذلك كلّه، فشلت هذه المحاولات لعشرات السنين وإن كانت قد أضعفت دور الثقافة العربيَّة وشوَّهت مضمونها الحضاري في أكثر من مجال.

العرب الآن في حالٍ من التخلّف السياسي والاجتماعي والاقتصادي من جهة، وتمزّق وصراعات من جهةٍ أخرى، ممَّا ينعكس سلباً على واقع حال الثقافة العربيَّة ويجعلها أسيرة هذا الواقع، المتخلّف عموماً، والممزَّق واقعاً، والعاجز دوراً.

ولعل الأمة العربية والثقافة العربية بحاجة معاً إلى نهضة جديدة تقوم على فهم أفضل لفكرة العروبة.

لكن وجود الفكرة وحده لا يكفي. فالمطلوب أن تتحوَّل الفكرة إلى دعوةٍ ناجحة تقوم على وجود دعاة ومفكّرين يحملون هذه الفكرة وينسجم سلوكهم مع طرحهم الفكري، ويتحركون ضمن مؤسسات متنوّعة المجالات، متعدّدة الرؤى لمراحل وساحات العمل، سليمة الأسلوب والبناء الداخلي، وترفض استخدام العنف بأشكاله كافَّة في أساليب الدعوة والعمل.

إنَّ التسمية المناسبة لهذه الفكرة ـــ الدعوة هي (العروبة الحضارية) بما تعنيه هذه التسمية من حرصٍ على الثقافة العربيَّة وعلى مضمونها الحضـاري، وأيضاً بما يميّزها عن طروحاتٍ كثيرة، في الإطارين القومي والإسلامي.

والتي تشوَّهت معانيها ومضامينها بسبب أزمة بعض دعاتها أو مؤسساتها أو سوء أساليبها، وبحكم تخبُّط أفكارها وعدم الفرز فيها بين الأصل السليم وبين ما عليها من أدران كادت أن تميت الأفكار نفسها، وإن كان أتباعها ما زالوا أحياء يُرزَقون!.

alhewar@alhewar.com

مدير »مركز الحوار العربي« في واشنطن

Email