كان عالم الأجناس البريطاني ادوارد تيلر، أول من وضع تعريفاً لمعنى الثقافة في عام 1871، فالثقافة وفق هذا التعريف هي »هذا الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والمعتقد والفن والأخلاق والقوانين والأعراف والتقاليد والقدرات والعادات، التي يكتسبها الفرد، بصفته جزءاً من المجتمع«.
وقد حـظي مفهوم الثقافة بالاهتمام البالغ من قبل فلاسفة وأدباء القرن العشرين. ويتفق علماء الاجتماع، على أن الثقافة ليست وراثية، وإنما تكتسب اجتماعياً، عبر عملية النشوء في المجتمع، والتفاعل معه تفاعلاً إيجابياً، منذ مرحلة الطفولة.
كان نشوء اللغة، بمثابة خطوة عملاقة، نحو جعل الثقافة الإنسانية كياناً معقداً، فبوساطة اللغة، أصبح إيصال المعاني ونقلها أمراً ممكناً، من خلال الأصوات، التي تنتظم في أنماط ودرجات شتى، ومن خلال الرموز، التي تنتظم في كلمات وجمل.
إن كل الثقافة الإنسانية تستند إلى اللغة، وجميع اللغات، وبضمنها لغات أكثر المجتمعات بدائية، لها قدر كاف من التعقيد، تعكس بوساطته ثقافات مجتمعاتها.
وتشمل الثقافة أنماط السلوك، حتى في الأمور ذات الأهمية الثانوية، مثل طبيعة وجبات الطعام، وأسلوب إعداده، وطريقة تبادل التحية بين الحميمي القرابة، والتحية مع الآخرين، وقضاء أوقات الفراغ وأداء بعض الطقوس.
كما أن الثقافة تضفي مسحة مميزة، على الأعمال الأدبية والفنية، وتعكس نفسها في اختيار الأزياء وفي الموسيقى والغناء، وغير ذلك الكثير. ويمكن اعتبار الثقافة بمثابة المجموع الكلي للمعرفة الإنسانية، والسلوك المكتسب للمجتمع.
لكل مجتمع، قاعدة من المعايير والأحكام والحِكم والأقوال المأثورة والرموز والطقوس، يتحدد في ضوئها معارف وسلوك أفراده، حيث يصبح الفرد جزءاً من نسيج معقد يشمل المجتمع بأسره. وتحرص الشعوب على التمسك بهويتها الثقافية، وتعتبر ذلك أحد مقومات وأعمدة كبريائها وكرامتها.
إلا أنها جميعاً، ومن غير استثناء، تنازلت عن الكثير من العادات والتقاليد، عبر التاريخ، لصالح عادات وتقاليد أخرى، سواء بإرادتها أم عكس ذلك. فالثقافة أشبه بالكائن الحي، يتأثر بالمحيط الذي يشغله ويؤثر فيه، ولكنها تختلف عنه، فهي لا تهرم، ولا تصل إلى سن الشيخوخة.
يذكر الفيلسوف الألماني إشبنغلر، في كتابه »تدهور الحضارة الغربية«، بأن "الثقافة تحتوي على هاجس للمصير، يحمل في أحشائه، هدفاً ومستقبلاً، وُضع في الماضي البعيد، إلا أنه ارتقى إلى مرتبة تسمو فوق مرتبة ما هو حي زمنياً".
إنه على حق فعلاً، فقد أعارنا التاريخ، بعض فقراته، صنعنا منها مفاصل في ثقافاتنا، ولكن اكتشفنا أن هذه المفاصل، لا تستطيع أن تتفاعل مع الحاضر إلا بآلات وآليات حديثة ومعاصرة، تنتمي إلى ثقافة الحاضر.
إن إحدى السمات المميزة، لعصر ما، هي ثقافة هذا العصر، وإحدى السمات المميزة، لمجتمع ما، هي ثقافة هذا المجتمع، وأحد مقاييس تطور هذا المجتمع، هو عدم التنافر بين ثقافة العصر وثقافته.
إن أبرز ما في ثقافة العصر، هو حلم الإنسان لصناعة عالم يحقق سعادته، وسعيه لتحقيقه، من خلال الإنجازات الهائلة التي اقترنت بالجهد الإنساني المشترك، على مر العصور.
الثقافة الحية هي أواصر انتماء الإنسان، إلى نسيج اجتماعي وحضاري معاصر، تبرز فيه نزعة قوية نحو السمو والتألق والتميز، يندمج الإنسان من خلالها، بأحلام أمته وطموحات أبنائها، ويجد في أبعادها الفكرية والوجدانية، فضاءات فيها متسع، لاستلهام إيجابيات تاريخه، ونقاطه المضيئة، ومزجها بالحلم الإنساني الكبير.
تعبر الفلسفة عن الخصائص الذاتية، للزمن الذي تنشأ فيه، بينما تعبر الثقافة عن السجل التاريخي الذي كُتب فيه، مجمل ما نتج عن التفاعل، بين الموروث التأريخي للمجتمع والثقافات الأخرى.
حيث يبين هذا السجل، المحطات التي تراجعت فيها بعض معالم ثقافته، لتحل بدلها معالم أخرى، أكثر قرباً إلى روح العصر ونكهته. فثقافة المجتمع الزراعي، مثلاً، قد تراجعت أمام ما جاءت به الثورة الصناعية، من معالم ثقافية جديدة، ترتبط بنمط جديد في إنتاج الحاجات المادية.
ليس هنالك ثقافة خالدة، وليس هنالك أفكار لها القدرة على الصمود، أمام جبروت الزمن، الذي لا يستثني شيئاً من الانزلاق على إحداثياته، فالخلود الدنيوي مجرد وهم فلسفي، أملته سفسطة بعض الحقب التاريخية، ولم يعد في عصرنا، غير مفردة تستخدم مجازاً، كَسمة للعمل الإبداعي المتميز.
عندما ينبذ المثقف المعارف الجديدة، ويزيح مصادر الحصول عليها جانباً، فإنه لا يدرك أنه بهذا، قد أوصد الأبواب، أمام معالم الحضارة، التي تتجلى عادة، في أذهان من يطرقون أبوابها. المثقف ليس حامل معلومات كثيرة، أو محدثاً لبقاً يتحف المستمع، ويشعر بالنشوة وهو يرى الانبهار في عينيه.
لا أحد يستطيع ان يتجاهل حقيقة أن الثقافة تصبح ذات قيمة، متى ما كانت حية ومؤثرة وفعالة في حياة الآخرين، متى ما كانت معاصرة. فالثقافة، قبل المثقف، هي التي تشرب وتنتشي، عندما تنفتح على الثقافات الأخرى، موجهة بذلك رسالة إلى القلة القادرة على قراءة فحواها:
ابحثوا عن الامتلاء وليس عن التشبع، ابحثوا وعززوا من نقاط الالتقاء بالثقافات الأخرى. هذا هو نمط التجلي الذي تفرزه ثقافة حية، لديها القدرة على الامتلاء، وعلى رفض التشبع، كي تبقى قادرة على التفاعل مع الجديد.
ثمة مسألة أخرى، من الضروري، الإشارة إليها، فتاريخ التطور العلمي، يوضح بشكل لا لبس فيه، إن ظاهرة الإبداع، لا يمكن أن تتعزز، إلا في مناخ مهيئ لذلك، تحكمه ضوابط ثقافية وحضارية وسلوكية، من الصعب تصور خلقه في المجتمع، إذا انغلق ثقافياً.
كان عالم الفيزياء الألماني الشهير هايزنبرغ، قد أشار في كتابه "الفيزياء والفلسفة" إلى الدور المهم للتلاقح الثقافي، فقد كتب " إن معظم التطورات المثمرة في الفكر الإنساني، قد حدثت في النقاط التي تلتقي فيها أساليب متعددة في التفكير، هذه الأساليب ربما ترجع جذورها إلى أجزاء مختلفة من التراث الإنساني وربما تعود لأزمان مختلفة، وقد تكون نابعة من عادات وثقافات مختلفة، وحينما تلتقي هذه الأفكار في النقاط المشتركة، فإن التأثير الحقيقي، يؤدي إلى صياغة المحتوى العلمي بأسلوب وطريقة مثيرة للاهتمام".
ترتبط التحولات في الثقافة الإنسانية بالتطور التكنولوجي، فقد أصبحت الثقافة في العصر الراهن بالغة التعقيد، بسبب التقدم السريع الذي يحصل في جميع مجالات الحياة.
وبسبب دخول الآلة، وبشكل متزايد، في معظم نواحي نشاطاتنا اليومية. فالثقافة السائدة في المدن تختلف عنها في الأرياف، كما أنه، في المدينة نفسها، هناك قدر كبير من عناصر الثقافة لا يشترك فيها الجميع.
فالمعارف العلمية في مجال الطاقة الذرية وتكنولوجيا المعلومات والهندسة الوراثية، تدخل ضمن ثقافة المجتمعات المتطورة صناعياً وعلمياً، وبشكل أدق، في ثقافة قلة من العلماء والمهندسين والأطباء.
majamal@emirates.net.ae
كاتب عراقي