يقاس التقدم، في أحيان كثيرة، بحجم التطور المادي، ليس في ذلك من ضير، فالحديث عن التقدم ليس بالضرورة حديث عن التحضر. فقد كان العلم، العامل الأول الذي رفع من مستوى معيشة الإنسان، وقلل من معاناته، فدافع الإنسان الذاتي نحو حياة أفضل، هو الذي يكمن وراء التطور المادي الذي نشهده في حياة المجتمعات.

إلا ان صناعة حضارة، يتطلب أكثر من ذلك بكثير، يتطلب صناعة قيم إنسانية. من أبرز سمات عصرنا الحالي، الدور الخطير الذي يلعبه توأم العلم والتكنولوجيا، في مختلف نواحي الحياة. هذا التوأم الذي صنع لنا الكثير من المعجزات، ومع ذلك، ينتابنا القلق، في بعض الأحيان، مما قد يجلبه لنا من ويلات، فهو يقبع مهدداً مستقبل البشرية كذلك.

يعتقد البعض أن في العلم عنصراً من الأخلاق، كفيل بردع الاستخدام الضار لمعطياته، إلا ان في هذا الاعتقاد، ما يشابه الخلل، الذي رافق تفكير البعض، في العصور الوسطى، في أوروبا، الذين تصوروا إن القيم الروحية، التي تكمن في الأديان، ستقف حائلاً، أمام الاستخدام الضار للعلوم. إلا انه، ومنذ نهاية العصور المظلمة هناك، افترق العلم عن الأديان، افتراقاً لا رجعة فيه، وأصبح مؤسسة مستقلة، تصنع أسباب القوة.

إن ما ينبغي الانتباه إليه، في هذا الصدد، هو أن العلم والتكنولوجيا، لا شأن لهما في خلق المشكلات، أو إيجاد حلول لما هو قائم منها، إنما نحن، من يوظف العلم ومن يستخدم التكنولوجيا، للخير أو لغيره، نحن من يوجد المشكلة، وعلينا أن نوجد الحل كذلك. إذ ينبغي على العلماء مراجعة أنفسهم، وتقويم مستوى القيم، التي تحكم سياسات المؤسسات التي ينتمون إليها.

تتطور العلوم والتكنولوجيا، في عصرنا الحالي، بقفزات واسعة وسريعة، ولغرض استخدام قدرات هذا النمو لفائدة البشرية، ينبغي أن تنمو معها، وبشكل مواز، منظومة قيمية، تردع الاستخدام الذي لا يلتزم، بالقواعد الدنيا من متطلبات السمو الإنساني.

في العقود الأخيرة من السنين، وبالرغم من تركيز العلم الطاغي، على ما هو مادي، تعزز الاعتقاد بأن الإنسان، أكثر من مجرد جسد، يسعى إلى الامتلاء شبعاً ولذة. فقد أفرزت الدراسات البينية، خاصة في مجال علوم البيئة، مفاهيم حضارية جديدة، مثل مفهوم «أمومة الأرض»، الذي يعكس نشوء فهم لعلاقة عضوية، بين الإنسان والطبيعة، ومفهوم «نسيج الحياة»، الذي يعبر عن تفهم لطبيعة العلاقات بين الكائنات الحية والبيئة.

وتعززت عقيدة «التوحد»، التي تعتبر الطبيعة، بعناصرها الحية وغير الحية، منظومة واحدة، تتكامل مع بقية المنظومات في الكون. وواضح كم لهذه الطروحات، من دلالات على بداية تشكل نظرة جديدة، ذات بعد أخلاقي، في الأوساط العلمية، فهي بدايات سوف تعمل على تغيير الكثير من التقييمات لأفعالنا.

لقد ازدادت في السنوات الأخيرة، وبشكل ملحوظ، الدعوات إلى التمعن، في القيم الأخلاقية، التي تكمن وراء بعض الدراسات والأبحاث في العلوم والتكنولوجيا. ومع أن الموضوع الذي تصدر الواجهة، يتعلق بالموقف تجاه المساعي الجديدة في مجال استنساخ الكائن الحي، إلا أن هنالك جوانب أخرى تزداد أهميتها، بشكل واضح، في صياغة سياسة أخلاقية.

فعندما يتحقق أحد الإنجازات العلمية، ونصل إلى مرحلة تطبيقاته التكنولوجية، هنالك ضرورة للتساؤل، عن عواقب هذه التطبيقات، في المجال الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. إذ لا ينبغي أن تتخذ القرارات، في ضوء الفوائد التي تترتب على استخدام الفكرة الجديدة، والتطبيقات المنبثقة عنها فقط، وإنما الآثار الضارة المتوقعة لهذه التطبيقات، زمنياً ومكانياً، كذلك.

ينبغي أن نتخطى في تقييمنا معايير من يزنون الأنشطة العلمية وخططها، بميزان الربح والخسارة، ونعتمد موازين أخرى، جوهرها احترام الإنسان وثقافاته، واحترام حقه في العيش الكريم. هذه ليست دعوة إلى وقف التقدم العلمي، وإنما دعوة لأنسنته، دعونا نرى إلى أين نحن متجهون؟

هل من أولوياتنا أن نتمتع بتمام الصحة؟، أم ندرس الأمراض لأجل التمتع بذلك؟. وهل البحث عن وسائل للسيطرة على الطبيعة، أكثر جدوى، من البحث عن وسائل للتعايش معها، في وئام وانسجام؟ هل نواجه عدواً، أم نحاور صديقاً؟ فنحن نسهم في التقليص من مساحة إنسانيتنا، عندما نستمر في توظيف علومنا وقدراتنا المتزايدة، لتحقيق المزيد من السيطرة على الطبيعة، وإلحاق المزيد من الأضرار بها، غير آبهين بعواقب ذلك على الأجيال القادمة.

إن الأسئلة التي نطرحها، والأجوبة التي نحصل عليها، تعتمد على إحساسنا بمن نكون، وإلام نسعى. فأي نوع من الإنسانية نسعى إليه ؟ وما دور هذه الإنسانية في التطور والارتقاء؟ هذه الأسئلة تصبح مهمة عند التفكير في مساحات الفضاءات التي تسعى حضاراتنا في الولوج إليها.

فالموقف من القضايا التي تتعلق بالحفاظ على البيئة، وهي قضايا، ليس هنالك ما هو أهم منها، يفرض على الجميع، ضرورة التفاهم، حول منظومة قيمية، تتعدى الأطر الوطنية والإقليمية. نحن بأمس الحاجة إليها، لضمان السلم، والحفاظ على الاستقرار، في العالم، ولضمان استمرارنا على هذا الكوكب.

يقف العلم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على حافة التقسيم الكبير جداً بين مهامه، فهل سيبقى، العامل المادي الخطير، الذي يعمل على منح مجتمع صغير فقط، كل أسباب القوة والرفعة، أم سيصبح وسيلة بناءة لفائدة المجتمع الأوسع، الإنسانية ككل.

يقارب العقل البشري، معاني الأشياء، بطرائق مختلفة، في بعض الأحيان من خلال البحث ودراسة الطبيعة بأدوات العلم الموضوعية، وبالمنهج العقلاني الذي يفرض بصماته على نتائج البحث. وفي أحيان أخرى عن طريق جمع وتنظيم حقائق طبيعية، أو حقائق متعارف عليها، في إطار مخيلة مفتوحة تحمل حلماً إنسانياً، تبتعد عن المنهج العقلاني قليلاً، إلا أنها لا تستبعد العقل.

كلتا الطريقتين تصيبان كبد الحقيقة في نهاية المطاف، فالطريقة الأولى تحمل صرامة الفكر العلمي وقسوته، في حين تكشف الثانية عن قدراتها غير المنظورة، التي أكسبتها رومانسية المخيلة جاذبية إنسانية. تقدم الأولى طبقاً جافاً من الطعام، وتقدم الثانية طبقاً مزيناً، تفوح منه رائحة الأمل. فالعلم والفكر والفلسفة لا تصبح دعائم لبناء سعادة الإنسان، إلا إذا كانت من أجل الإنسان.

عند ذاك، نكون قد كتبنا الحروف الأولى لمسودة قيم أخلاقية كونية. وتقديراً لأهمية هذا الموضوع، تبنت منظمة اليونسكو، التابعة للأمم المتحدة، برنامجاً أخلاقياً عام 1998، وتأسست في ضوء ذلك، اللجنة العالمية للأخلاق في العلوم والتكنولوجيا، عام 2002. ويسعى البرنامج، إلى تحقيق أهداف المنظمة، في السعي نحو الكمال، من خلال احترام قيم وكبرياء جميع الحضارات والثقافات، وإلى تعزيز التوجه، لدى الحكومات والمؤسسات غير الحكومية،

نحو اعتماد أطر أخلاقية وإنسانية في التخطيط في مجالات العلوم والتكنولوجيا. ويعتمد نجاح هذا البرنامج على مقدار النجاح في تعزيز الوعي، وبناء القدرات الذاتية، ووضع المعايير، والتي هي في الواقع المفاتيح لاستراتيجية منظمة اليونسكو في الدول النامية وفي غيرها. ويركز برنامج الأمم المتحدة في الوقت الحاضر على الأطر الأخلاقية والقانونية التي تتعلق بالبيئة والفضاء.

كاتب عراقي