الفكرة تنفصل عن الممارسة حين تصل إلى مأزقها: نقيض زاحف بقوة مقابل عجز ما أصاب آلياتها الدينامية، ومقدرتها على استيلاد أدوات مواجهة التحديات. هذا ما يدفع إلى تبين مفاصل الفكرة نفسها، لعل خللا ما كدس الصدأ في ذهنيات حامليها، فاعتراها التآكل.. وهم النكوص.
في الفكر المادي، مثلا، قيل ان كل فكرة تحمل بذور فنائها، وهذا الفناء مشروط بانتفاء الشرطين الموضوعي والذاتي لضرورتها، فيولد من ردة الفعل الذاتية عليها (المعززة بقوى خارجية) فكرة نقيضة تتقدم بحيوية الولادة والنزوع المحفز لما هو جديد.
الفكر عموماً، هو نتاج عمليات ذهنية معقدة، وبالتالي أي خلل يصيب العقل «الرحم، حكما يصيب المولود» الفكرة. وهنا تتضح ضرورة البحث في الداء العابر للقرون الذي ما فتئ يصيب البشرية: انه النمطية. والقول بأن قادة الفكر وساسته ينقلبون بممارساتهم الخاطئة عليه، انما هو استسهال هروبي من مواجهة معضلة الخلل الذي جعل من هذه الانقلابات ظاهرة عابرة للأجيال. فكل المعتقدات والمبادئ من دون استثناء، تعرضت لانقلاب الممارسة على النظرية، وان بنسب متفاوتة.
النمطية، هو الركون إلى نمط في التفكير وما يولد من ممارسة، بقصد ديمومة الإفادة من هذا النمط الحياتي بمفاصله الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. هذه الإفادة بالضرورة (بفعل توافق وتضاد المصالح) تكون على حساب ضرر ما أصاب آخرين من هذا النمط.
إذن قادة الفكر الماركسي وساسته، من الجيل ما بعد المؤسس للنظرية، أفادوا مما وصل اليه المعسكر الاشتراكي من منجزات القوة والسلطة والهيمنة البروليتارية، ودفعتهم تواطؤات الإبقاء على الأمور على ما هي عليه، إلى تشكيل تحالفات طبقية، حتى لو كانت نظريا نقيضة للبورجوازية، تجهد أولاً لتكريس نمطيتهم الفكرية لدى العامة، لمحاولة خنق الشروط الموضوعية لولادة الفكرة\النقيض.
لكن ما الذي دفعهم أصلاً إلى ذلك ما دام النظام السياسي والعقائدي ان جاز التعبير يوفر لهم كل منجزات الجبروت السلطوي؟
ببساطة لأن حملة الفكر الماركسي، واجهوا مأزقا من شقين:
الأول: كفاحهم المرير لهزيمة قوى الممانعة لأي قادم جديد، دائما ما يواجه بالشك، واصطدام مصالح الفئات المجتمعية المتضررة. اما الثاني فهي تلك الطموحات الأعلى من مقدرة الظروف الموضوعية والذاتية لدى غالبية فئات المجتمع، على هضمها.
فالبيان الشيوعي الأول الذي أطلقه كارل ماركس، كان أشبه ببيان انتحاري فكري، من حيث مسارعته إلى نسف كل ما بني عليه الفكر البشري الميتافيزيقي، وتحديد منتهى النظرية الماركسية سلفا بالمرحلة الشيوعية، التي يتطلب نجاحها مثلا تهيئة لقرون ربما، عبر المرحلة الاشتراكية، وهو ما اكتملت طامته الكبرى بالحقبة الستالينية التي اعتمدت القفزات الواسعة جدا على أرضية ما زالت رخوة.
أمام هذا المأزق، ارتدت النظرية الماركسية إلى الداخل، واعتمدت أسلوب التصليب الداخلي بالقمع والإكراه، ولأن الطبقة السياسية الحاكمة كانت مستفيدة مما أنجزته، تحوصلت في النمطية، التي عجزت عن مواجهة مغريات الحياة. النمطية مرض يصيب كل مخرجات الفكر، لكنه مصلحي، ما يدفع إلى التمعن في السؤال الأخطر: من يؤتمن على من؟.