هل أخرج ترامب المارد النووي من القمقم؟

تجربة لصاروخ بوريفيستنيك الذي يعمل بالطاقة النووية في روسيا الأسبوع الماضي
تجربة لصاروخ بوريفيستنيك الذي يعمل بالطاقة النووية في روسيا الأسبوع الماضي

يلخص رئيس فنلندا ألكسندر ستبّ المشهد الدولي الراهن بعبارة «العالم دخل عصراً جديداً من الأسلحة النووية». وهو يرى أن منطق الردع والاستقرار الاستراتيجي بين القوى العظمى يتغيّر.

هذا التوصيف لا يقتصر على رئيس فنلندا التي غادرت منطقة الحياد وانضمت لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بل تردد على ألسنة كثيرين ممن يشعلون الضوء الأحمر محذّرين من اتجاه العالم نحو مواجهة قد تتحوّل إلى نووية.

الأسبوع الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه أمر باستئناف التجارب النووية الأمريكية، مبرراً الخطوة بما وصفها «اختبارات سرّية» تقوم بها روسيا والصين، قبل أن يضيف لاحقاً أن الولايات المتحدة لن تبقى الدولة الوحيدة التي لا تختبر هذا السلاح.

هذا الإعلان لم يمر كتفصيل عابر، بل إنه فتح الباب للتساؤل المتجدد: هل عاد العالم إلى ما قبل معاهدة الحظر الشامل؟ وهل يعني هذا أيضاً أن ترامب أخرج المارد النووي من القمقم؟

ترامب أشار إلى أن دولاً أخرى، غير روسيا والصين، مثل باكستان وكوريا الشمالية «لا تتوقف عن الاختبار»، وأن «أمريكا القوية يجب أن تختبر أيضاً».

وبينما أوحت تصريحاته بأن التجارب ستعود بصورتها الكلاسيكية تحت الأرض، أوضح وزير الطاقة الأمريكي أن المقصود من تصريحات ترامب، في الوقت الراهن، «اختبارات غير حاسمة»، أي فحوصات لمكوّنات أنظمة الأسلحة النووية من دون تفجير فعلي.

ورغم التوضيح، فإن مجرد استخدام عبارة «استئناف الاختبارات» كفيل بأن يحرّك أحد آخر خطوط التهدئة بين القوى النووية الكبرى منذ التسعينيات.

مرحلة انتقال

الصين سارعت إلى النفي، ووصفت اتهامات ترامب بأنها «مزاعم بلا أساس»، مؤكدة تمسكها بسياسة «عدم الاستخدام أولاً»، وبالتزامها بوقف الاختبارات النووية. المتحدثة باسم الخارجية الصينية، قالت إن بكين «ملتزمة بالتنمية السلمية» ودعت واشنطن إلى الحفاظ على ما تبقى من المعاهدات الدولية الخاصة بالحظر النووي.

ويرى خبراء في معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI) أن النظام النووي العالمي يمرّ بمرحلة انتقال من تقليص الترسانات إلى إعادة بنائها وتحديثها.

وأن عودة الحديث عن التجارب تحمل معنى سياسياً أكثر من كونها تقنية. فالتجربة – حتى إن لم تُفجَّر – هي إعلان نية واستعراض إرادة، ورسالة موجهة إلى الخصوم والحلفاء معاً.

من الممكن الإشارة إلى أن روسيا أجرت الأسبوع الماضي تدريبات على الأسلحة النووية الاستراتيجية الثلاثة، البر والجو والبحر، لكنها اختبارات على الأسلحة من دون مكونات نووية أو تفجيرات. هذا الإعلان التوضيحي من الكرملين، ربما، لم يقنع ترامب الذي يتحدث عن تدريبات سرية تحت الأرض.

الولايات المتحدة بهذا السلوك تريد أن تقول إنها لا تسمح بانفراد موسكو وبكين بإعادة بناء الردع، حتى إن لم تملك أدلة منشورة على التجارب السرية التي تتحدث عنها. وإذا كانت الصين تنفي، فإن روسيا تلتزم الصمت التقليدي، لكنها تتابع عن كثب.

أما الحلفاء الأوروبيون، فبين قلق من سباق جديد، وتوجس من أن يؤدي الانفلات النووي إلى تآكل آخر ما تبقى من مكتسبات للبشرية منذ الحرب العالمية الثانية.

غطاء للتبرير

ويحذر خبراء قانونيون من أن الخطوة الأمريكية قد تُستخدم لاحقاً كغطاء لتبرير تجارب تفجيرية فعلية، تماماً كما حدث في خمسينيات القرن الماضي عندما بدأت «تجارب باردة» تحولت تدريجياً إلى تفجيرات نووية مكتملة. ومع غياب الشفافية التقنية، يصعب التمييز بين الاختبار التقني والسياسي، و«التحذير» و«التهيئة».

فهل تصريحات ترامب تمهيد لمرحلة «التفجير الصامت»، حيث لا دخان ولا ضوء، بل رسائل من تحت الأرض؟ أياً تكن الإجابة، يشعر العالم أن شبح سباق التسلح الذي أُغلق ملفه نهاية القرن الماضي ينهض من جديد، وسط تصاعد لهجة الردع، وتراجع الثقة بين القوى النووية.

من الملاحظ أن مجرد فتح الباب للاختبارات، ولو جزئياً، يكفي لزعزعة مبدأ تجميد التجارب النووية الذي شكل منذ 1992 أساساً للاستقرار. ومع كل اتهام جديد بين واشنطن وموسكو وبكين، يظهر أن الخطر لم يعد في التفجير نفسه، بل في انتعاش «النوايا النووية».

هكذا كان منطق الحرب الباردة، وهو يتبدى حالياً بثوب أكثر تعقيداً: اختبارات بلا دخان، وسباق يبدأ تحت الأرض قبل أن تحلق الصواريخ في السماء وتتحرك الغواصات في المحيطات.