قبل عدة أيام هبط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من طائرته الرئاسية في مطار بن غوريون، في مستهل زيارته السريعة للشرق الأوسط، فخطب في الكنيست بلهجةٍ دراميةٍ مؤثرة، ثم انتقل إلى القاهرة، حيث صافح عدداً من قادة العالمين العربي والإسلامي، في مشهدٍ مفعم بالدبلوماسية والبراغماتية. هناك وُقّعت بنود اتفاق السلام الذي أنهى حرباً امتدت لعامين، وأعاد الأسرى الأحياء إلى إسرائيل.
لكنّ ما وراء الصورة أعمق من الدبلوماسية، فطريقة ترامب في قيادة تلك المفاوضات تكشف عن ذهنية إمبراطورية تستحضر روما القديمة أكثر مما تعكس مدرسة واشنطن المعاصرة.
يمارس ترامب السياسة، بإرادة أو من دونها، كما كان يفعل القياصرة الرومان، من خلال العلاقات الشخصية لا المؤسسية، ومن خلال شبكة من "الأصدقاء" والوسطاء الذين يربطهم به ولاء الدم أو الثقة المطلقة، كما يرى الكاتب الأمريكي باري ستراوس في مقال له بمجلة "تايم" الأمريكية.
بنى الرومان إمبراطوريتهم على مفهوم "الصداقة" السياسية مع الملوك والزعماء التابعين لهم، وكانت تلك الصداقات تقوم على الثقة والخوف في آنٍ واحد؛ الثقة في أنّ روما تحمي، والخوف من أنّ روما تعاقب. ويبدو أن ترامب يستخدم المنطق ذاته: صداقة مرهونة بالقوة، وتحالف لا يزدهر إلا في ظلّ الولاء الشخصيّ.
حين عيّن ترامب رجل الأعمال ستيف ويتكوف مبعوثاً خاصّاً إلى الشرق الأوسط، وأسند إلى صهره جاريد كوشنر مهمة هندسة التسويات، لم يكن يبحث عن الدبلوماسية التقليدية، بل عن أذرعٍ شخصيةٍ تحمل توقيعه هو. لم يكن ويتكوف ولا كوشنر دبلوماسيين محترفين، لكن قربهما من الرئيس منحهما نفوذاً يُذكّر بمبعوثي روما الذين كانوا يحملون أوامر الإمبراطور لا توصيات مجلس الشيوخ.
وكما استخدم الرومان العصا والجزرة، استخدم ترامب أدواته بين التهديد والضمان. فوفق ستراوس، وعد ترامب قطر بأمنٍ استثنائي مقابل دعم السلام، وهدّد حماس بالعودة إلى النار إنْ تراجعت عن نزع سلاحها، ولوّح لإسرائيل بوقف الدعم إن تمادت في مشروع الضم، كل ذلك دون أن يُرسل جندياً أمريكياً واحداً إلى الميدان.
في رؤيته للعالم، لا يعد السلام نقيضاً للقوة، بل إحدى صورها، وكذا "السلام الروماني"، الذي كان في نظر خصوم روما "سلام القبور"، وهو النموذج الأقرب إلى ما يصنعه ترامب اليوم؛ سلامٌ مفروضٌ بالقوة، لكنه يمنح الشعوب استراحةً من الخراب.
تاجر قديم
يحاول ترامب تحقيق ما يسميه "السلام الأمريكي" عبر تحريك أدوات النفوذ، لا الجيوش، عبر التهديد والاحتواء، وعبر الحضور الشخصيّ الكاسح الذي يجعل من القادة الآخرين جزءاً من روايته هو.
ومع أن الحرب في غزة وضعت أوزارها، إلا أنّ الجميع يدرك أنّ الهدوء الراهن لا يعني نهاية الصراع. فترامب أتاح للعالم، ولو مؤقتاً، أن يتنفس، وأن يعيد ترتيب أوراقه على إيقاع رجلٍ يرى في نفسه "قيصراً" منتخباً، بحسب ستراوس.
الدول لا تملك أصدقاء دائمين، كما يقول اللورد بالمستون، بل مصالح دائمة، وترامب، التاجر القديم، يدرك ذلك جيداً، لذا يصوغ صداقاته بالمنطق ذاته الذي بنى به ثروته: الولاء مقابل المكسب، والصفقة مقابل الولاء.
وفي النهاية، إنْ استطاع الرجل أن يجعل طريق الحرب أقصر قليلاً، وأن يزرع على جنباتها بضع محطات للسلام، فربما يستحق حينها، كما يختم ستراوس مقاله، إكليل النصر الذي كان يوضع على رأس القياصرة.


