مع اقتراب الولايات المتحدة من الاحتفال بمرور 250 عاماً على تأسيسها، يعود السؤال القديم إلى الواجهة: هل اقتربت نهاية العصر الأمريكي؟ وهل أصبحت الولايات المتحدة تشبه حضارات عظيمة سقطت مثل روما وأثينا؟ هذا ما يناقشه الباحث «جوهان نوربرغ» في مقاله بصحيفة واشنطن بوست، حيث يستعرض نوربرغ التاريخ باستفاضة ليفحص إمكانيات انحدار الأمم العظمى، وما الذي يجعلها تمرّ بنهاية مأساوية أو تستعيد نفسها من جديد.
ويشير نوربرغ إلى أن الخطر الأكبر الذي يواجه أمريكا اليوم لا يأتي من الخارج، بل من داخلها، حيث تتجلى ملامحه في تراجع الثقة والانقسام الحاد وفقدان "الروح الأثينية" التي تصنع العصور الذهبية.
يذكّر نوربرغ بأن سقوط الإمبراطورية الرومانية ظل هاجساً يلاحق المخيلة الغربية، مؤكداً أن حتى أقوى الأمم معرضة للانهيار، فقد استلهم الآباء المؤسسون لأمريكا، عن وعي، نموذجهم السياسي والمعماري من أثينا وروما القديمتين، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الأمريكيون عن الخوف من تكرار المصير ذاته.
واليوم، مع تزايد الديون والانقسام السياسي وعدم الاستقرار العالمي، تجددت تلك المخاوف، ودفع ذلك كثيرين إلى مقارنة الولايات المتحدة الحديثة بروما في مراحلها الأخيرة قبل سقوطها عام 476 ميلادية.
ويقول الكاتب إن الحضارات الكبرى من أثينا وروما إلى بغداد العباسية، وإيطاليا عصر النهضة، والصين في عهد أسرة سونغ، والجمهورية الهولندية لم تنهَر بسبب الحروب أو الكوارث وحدها، بل بفعل تآكل داخلي عميق تمثل في فقدان الثقة والفضول، وهما مصدر الإبداع والحيوية.
ويصف نوربرغ ما يسميه "الروح الأثينية" بأنها روح الانفتاح على التجارة والهجرة والابتكار والحوار، وهي ما يميز فترات الازدهار، أما التراجع فيبدأ حين تسود "العقلية الإسبرطية" التي تتسم بالانغلاق والخوف من الاختلاف والهوس بالسيطرة، كما حدث في إسبرطة القديمة حين بلغت ذروة قوتها العسكرية بين عامي 650 و371 قبل الميلاد.
ويُسقط الكاتب هذا النموذج على الصين والولايات المتحدة معاً؛ فالصعود الصيني في عهد دينغ شياو بينغ (1978-1992) كان ثمرة للانفتاح، بينما يميل عهد شي جين بينغ نحو الانغلاق الذي ميز نهايات الإمبراطوريات السابقة، وعلى المنوال ذاته، شهد الغرب في العقود الأخيرة تراجعاً في التسامح بفعل الإرهاب وجائحة كورونا والأزمات الاقتصادية، ما زاد حدة الانقسام الداخلي.
ويرى نوربرغ أن صعود اليمين القومي واليسار غير الليبرالي يعكس ميلاً مشتركاً لقمع الرأي المخالف وفرض التجانس الفكري، وهو ما يشكل تهديداً جوهرياً للديمقراطية.
ومع ذلك، يؤكد الكاتب أن الانحدار ليس حتمياً، فالحضارات قادرة على تجديد نفسها متى توافرت الإرادة والشجاعة، كما فعلت الصين في عهد أسرة سونغ وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال الولايات المتحدة، برأيه، تمتلك المؤسسات والحريات التي تمكّنها من النهوض مجدداً إذا ما استعادت روح الانفتاح والتجريب وهزمت النزعة القبلية.
ويختم نوربرغ مقاله مستشهداً بكلمات الرئيس الأمريكي السادس عشر أبراهام لينكولن: "إن كان دمارنا قدرنا، فسيكون من صنع أيدينا. وكأمة من الأحرار، إما أن نعيش عبر كل الأزمنة، أو نموت انتحاراً".
