كاليفورنيا.. قصة ولاية ضاق بها الثوب الفيدرالي

على ضفاف الساحل الغربي للولايات المتحدة، ترقد ولاية كاليفورنيا مادة رقعتها الواسعة على مساحة 423,970 كم²، لتشكل حالة فريدة لم يشهدها الاتحاد الأمريكي منذ تأسيسه، حيث لم يسبق أن شكّل كيان داخلي ما تشكّله كاليفورنيا اليوم: اقتصاد بحجم دول صناعية كبرى، تأثير ثقافي يوازي جاذبية الإمبراطوريات الناعمة، ونزعة سياسية تتجاوز سقف الفيدرالية.

مع تصاعد الأحداث باتت هذه الولاية في قلب نقاش سياسي مقلق؛ فماذا لو قررت كاليفورنيا أن تسلك طريقها الخاص، ليس بالضرورة انفصالاً دستورياً، ولكن باستقلال وظيفي يجعل من النظام الفيدرالي عباءة ضيقة على جسدها المتنامي؟

عملاق اقتصادي

من الناحية الاقتصادية، تُعد كاليفورنيا اليوم رابع أكبر اقتصاد في العالم، متجاوزة اقتصادات كبرى مثل المملكة المتحدة والهند واليابان، بعد أن بلغ ناتجها المحلي الإجمالي نحو 4.1 تريليونات دولار عام 2024، وهي موطن وادي السيليكون، وأكبر منتج زراعي في أميركا، وقلب صناعة الترفيه العالمية، وأي اهتزاز في بنيتها الاقتصادية ستنعكس أصداؤه فوراً اختلالات وطنية ودولية، ما يجعلها "دولة" ضمن اتحاد فيدرالي قد لا يستطيع احتواء طموحاتها، حيث تمثل وحدها، أكثر من 14% من إجمالي الناتج القومي الأميركي، متقدمة على ولايات تكساس ونيويورك.

في السنوات الأخيرة، وخصوصاً خلال الأزمات المتراكمة (كوفيد-19، حرائق الغابات، قوانين الهجرة، التغير المناخي)، بدا أن سقف التنسيق بين الولاية والحكومة الفيدرالية آخذٌ بالتصدع. ففي ملف البيئة، على سبيل المثال، أصرّت كاليفورنيا على معايير انبعاثات أكثر صرامة من تلك الفيدرالية، ما استدعى صدامات قضائية مع واشنطن، وأقامت علاقات تعاون بيئي وتجاري مباشرة مع حكومات وكيانات كبرى مثل الاتحاد الأوروبي والصين، خارج إطار السياسة الخارجية الأميركية التقليدية. وفي الهجرة، تبنت الولاية قوانين تحمي المهاجرين غير النظاميين، متحدية السياسات الفيدرالية الصارمة. هذه الوقائع لا تُفهم كتمرد محلي، بل كمؤشرات على انتقال سياسي ناعم قد يكون له ما بعده.

تكساس ضد وايت

لم يخل هذا النفوذ من التوترات، فعلاقة كاليفورنيا بالحكومة الفيدرالية في واشنطن تتّسم أحياناً بالتنافر، خاصة عندما تكون الإدارة الفيدرالية في يد الحزب الجمهوري، حيث خاضت الولاية نزاعات قانونية حول سياسات الهجرة، وتغيّرت لهجتها كثيراً في مواجهة محاولات تقليص سلطتها التنظيمية في مجالات مثل المناخ أو الضرائب. كما كانت في طليعة الولايات التي واجهت سياسات إدارة ترامب، خصوصاً ما يتعلق بالقيود البيئية والهجرة، وقدّمت أكثر من 100 دعوى قضائية ضد الحكومة الفيدرالية في غضون سنوات قليلة.

هنا، يصبح السؤال الجوهري: إلى أي مدى تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تبقي كيانات متضادة في الرؤية والدور والطموح تحت سقف واحد؟

من الناحية الدستورية، يبدو الانفصال الفعلي شبه مستحيل في ضوء حكم المحكمة العليا الذي عرف باسم "تكساس ضد وايت عام 1869"، الذي أكد أن الاتحاد غير قابل للتفكيك، لكن ما دون الانفصال، هناك خيارات أخرى مثل: توسيع سياسات اللامركزية، وبناء شبكات دولية مباشرة في التجارة والبيئة، وتشكيل تحالفات مع ولايات كالشمال الشرقي (نيويورك، ماساتشوستس)، وفرض واقع يكبل واشنطن في دور الجهة المراقبة فقط للاتحاد.

طبعاً، تلك مجرد سيناريوهات، لكن الفكرة المركزية تبقى في سؤال حول ماذا سيخسر الاتحاد الأميركي لو قررت كاليفورنيا أن "تبتعد قليلاً"؟ والإجابة ليست تقنية فقط، بل وجودية، فالاتحاد الذي لا يستطيع استيعاب أكثر ولاياته ديناميكية قد يكون على مشارف أزمة وجودية، ذلك أن فقدان المركز لا يحدث بانفصال جغرافي، بل حين تتعارض الرؤى وتتباين الغايات.