روسيا وأوروبا.. بين الاستعراض وقوة الضغط

لم يكن تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأخير، بأن روسيا لا تريد حرباً مع أوروبا، عابراً في غمرة سجال سياسي، بقدر ما هو أقرب إلى تثبيت لحدود اللعبة بين الطرفين. قال بوتين: «إذا أرادت أوروبا الحرب وبدأتها فنحن مستعدون... وهذه ليست أوكرانيا». بهذه الجملة وحدها رسم الرجل الفارق الذي يتجنب كثيرون الاعتراف به، وهو أن الحرب في أوكرانيا -رغم شدتها- محسوبة، وجراحية، ومقيدة بألف قيد. أما الحرب مع أوروبا، إن وقعت، فلن تكون امتداداً للخط نفسه، بل كسراً لقواعده منذ اللحظة الأولى.

روسيا تتحدث عن الحرب بثلاثة أبعاد، الردع، والتحذير، ومحاولة إفهام الأوروبيين أن سقف الصراع أعلى بكثير مما يظنون. وفي المقابل ترد أوروبا بلغة مزدوجة، الثقة العالية في الخطاب العام، والقلق العميق داخل المؤسسات. وفي الأثناء يعيش الغرب على معادلة غير مستقرة، الضغط على روسيا من دون دفعها نحو الهزيمة، لأنها في العقيدة الروسية الباب الإجباري الذي يُفتح منه اللهيب النووي، وهو ما يدركه الغرب جيداً، حتى لو صدرت عنه تصريحات توحي بالنقيض.

تعتقد موسكو أن الغرب -وبخاصة الأوروبي منه- يحاول صناعة «ظروف ما بعد الحرب» قبل انتهاء الحرب نفسها؛ إعادة تسليح نوعي، وتنشيط الصناعات العسكرية، وتوسيع الناتو، واستعادة مفردات الحرب الباردة. كل ذلك، بالنسبة للكرملين، ليس مساعدة لأوكرانيا بل تحضير لتوازن جديد تُقصى فيه روسيا أو تحاصر. ومن هنا يتولد الغضب الروسي من عبارة «الهزيمة الاستراتيجية»، فموسكو لا ترى الهزيمة حدثاً عسكرياً، بل تهديد وجودي.

ومع ذلك، لا يبدو الغرب نفسه راغباً في الذهاب إلى تلك النهاية، إذ يعرف الأوروبيون -مهما علت تصريحاتهم- أنهم لا يملكون القرار الكامل للحرب، وحتى لو امتلكوه فإنهم يدركون الكلفة. وفي كل الأحوال، فإن قراراً كهذا يمر أولاً في واشنطن، ثم في «الناتو»، وبعد ذلك في حسابات الداخل الأوروبي. أوروبا تتحرك من الخلف داخل الإطار الذي تضعه الولايات المتحدة؛ فحتى الدول الأكثر تشدداً تجاه روسيا لا تجرؤ على القفز عن الخط الأمريكي، لأن أي قفزة منفردة يمكن أن تتحول إلى اشتعال شامل لا تملك أوروبا أدوات التحكم فيه.

وهنا يظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يبدو ظاهرياً أنه قد يغير اتجاه الصراع كلما تغير مزاجه، لكنه في العمق مقيد بالطبقات الصلبة للسلطة الأمريكية، وفي قضايا الحرب الكبرى لا يصوغ سياسة شخصية، إنما المؤسسة الأمنية والاستخبارية هي التي تحدد التوجه.

دول أوروبا تدرك ذلك، ولذلك تتصرف معه كما تتصرف مع أي رئيس أمريكي، تنتظر الإشارة ثم تتصرف وكأنها تقرر.

روسيا من جانبها، تخاطب أوروبا بوصفها خصماً استراتيجياً قام بذاته، رغم علمها أن أوروبا في لحظة القرار ليست سوى امتداد لقرار يطبخ في واشنطن.

ورغم الضجيج الذي يملأ المشهد، إلا أن الصورة الأعمق تبدو أكثر هدوءاً مما يطفو على السطح، فالحروب الكبيرة لا تعلن بالصدفة، ولا تنفجر من كلمة زائدة أو انفعال. ما يحدد مستقبل التوتر بين أوروبا وروسيا ليس ما يقال، بل حسابات أدق وأعمق.

أوروبا تخشى أن تنكسر وحدتها قبل أن تنكسر روسيا، كما تخشى، ومعها أمريكا، أن تحقق روسيا انتصاراً يضعها في موقع متقدم، مع عدم الرغبة في دفعها لهزيمة تدفعها إلى ما هو أخطر من الهزيمة.

لذلك يبقى الجميع على الحافة.. خطوة إلى الأمام نصف خطوة إلى الوراء.

يتحدثون على نحو يوحي بالثقة، لكنهم يتصرفون بحذر.

في النهاية، ليست أوروبا ولا روسيا من يحدد شكل المستقبل وحدهما في منطقة لا تخضع للخرائط، وفي ظل الحذر المتبادل، وربما الخوف الذي لم يكن في كل حروب القرن الماضي أضعف عناصر السياسة، بل أقواها، حيث إنه يمنع الانفجار، رغم أنه يعطل أو يمنع الحل.