كيف تخسر منصباً وزارياً في 840 دقيقة وتترك ماكرون لأزمة "الثلاث ورقات"؟

تشهد الجمهورية الفرنسية اليوم إعلاناً دراماتيكياً عن مأزق دستوري غير قابل للحل، يؤكد أن السلطة التنفيذية في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون باتت محاصرة بـ شلل برلماني مزمن.

إن فقدان الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية لم يعد مجرد تحدٍ تكتيكي، بل أصبح قيداً وجودياً يهدد بتقويض الاستقرار الجمهوري بأكمله. في هذا المشهد السياسي المتصدع، جاءت الاستقالة المدوية لرئيس الوزراء المعين، سيباستيان لوكورنو، لتكون بمثابة صفعة ساخرة على وجه الأغلبية المفقودة، حيث لم يصمد في منصبه سوى 840 دقيقة (أقل من 14 ساعة)، محطماً بذلك رقماً قياسياً في قصر المدة يُعيد سجلات الحكم الفرنسي إلى مائة عام مضت.

الأغلبية المفقودة

اليوم الاثنين، أعلن مكتب ماكرون أن الرئيس طلب من رئيس الوزراء المستقيل، سيباستيان لوكورنو، إجراء محادثات نهائية مع الأحزاب السياسية بحلول مساء الأربعاء، بهدف "تحديد إطار للتحرك والاستقرار في البلاد".

هذا الطلب جاء عقب أن قدم لوكورنو استقالته واستقالة حكومته الجديدة في وقت سابق، بعد أن واجه تهديدات فورية من حلفائه وخصومه على حد سواء بإسقاط الحكومة قبل أن تبدأ عملها.

وفي مفارقة مذهلة، لم يتمكن لوكورنو، الذي كان سابقاً وزيراً للدفاع والشخصية السياسية الأقرب إلى ماكرون، من جمع وزرائه الـ18 الذين أُعلنت أسماؤهم مساء الأحد على عتبة "الإليزيه"، ولا حتى المثول أمام نواب الأمة، على عكس سلفيه ميشال بارنييه وفرنسوا بايرو اللذين استمرت حكومتاهما 3 و8 أشهر على التوالي.

لقد كُلِّف لوكورنو بتشكيل الحكومة منذ 9 سبتمبر الماضي، وتوفر له الوقت الكافي لإجراء مشاورات موسعة مع جميع القوى السياسية والنقابات وأرباب العمل، بهدف التوصل إلى قواسم مشتركة تضمن تشكيل حكومة قادرة على صياغة ميزانية متوازنة وتمريرها في البرلمان.

سقوط الحسابات

بيد أن هذه الحسابات سقطت مباشرة بعد إعلان أسماء الوزراء وحقائبهم. جاءت الخيبة الأولى عندما فاجأ لوكورنو الفرنسيين بتقديم تشكيلة لا تختلف كثيراً عن حكومة سلفه، حيث عاد 12 وزيراً من أصل 18 إلى حقائبهم الأساسية، بما في ذلك وزراء: الخارجية (جان نويل بارو)، والعدل (جيرالد دارمانان)، والداخلية (برونو روتايو)، والاقتصاد (برونو لومير) وغيرهم.

هذا التكرار أكد أن لا تغيير في النهج أو الأسماء، رغم وعده بتغيير شكل ومضمون الحكم.

شكلت عودة برونو لومير لحقيبة الاقتصاد، التي أمسك بها طوال سبع سنوات، نقطة اشتعال. لقي تعيينه رفضاً جذرياً بوصفه المسؤول عن أزمة المديونية الحادة في فرنسا، التي زادت تريليون يورو لتقفز راهناً إلى 3.4 تريليون يورو، مما جعل فرنسا أحد أسوأ "تلامذة" الاتحاد الأوروبي مالياً.

وقد أدى انسحاب حزب الجمهوريين من التحالف الحكومي بسبب تحفظاتهم على التشكيلة وعدم حصولهم على ثلث الحقائب، ورفضهم تعيين لومير في وزارة الدفاع، إلى كشف الحكومة بالكامل.

كما فشل لوكورنو في "تحييد" الحزب الاشتراكي، الذي رفض التجاوب مع أي تدابير ما لم يتم التراجع عن قانون التقاعد وإقرار ضريبة مرتفعة على أصحاب الثروات الكبرى التي تزيد على مائة مليون يورو.

في المقابل، سارع اليمين المتطرف (التجمع الوطني) بقيادة جوردان بارديلا ومارين لوبن إلى المطالبة بانتخابات نيابية مبكرة فوراً.

ماكرون أمام 3 ورقات

اليوم، تتجه الأنظار نحو قصر الإليزيه ورئيسه، إيمانويل ماكرون، الذي ترسو عليه مسؤولية إيجاد مخرج من هذه الأزمة المؤسساتية التي تهدد بالتحول إلى أزمة نظام.

جان لوك ميلونشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" اليساري، جدد مطالبته بإقالة ماكرون أو استقالته والذهاب مباشرة إلى انتخابات رئاسية.

يرى الخبراء أن أمام ماكرون ثلاثة سيناريوهات بالغة الصعوبة: الأول، تكليف شخصية تكنوقراطية محايدة بمهمة تمرير مشروع الموازنة لعام 2026 فحسب.

الثاني، تكليف شخصية تميل يساراً، وهو خيار رفضه ماكرون سابقاً لأنه سيواجه رفضاً مبدئياً من الكتلة الوسطية واليمين.

السيناريو الثالث، وهو الأصعب، هو الدعوة إلى انتخابات مبكرة، التي من المرجح أن تفرز مجلساً مشابهاً للمجلس الحالي، أو تفتح الباب أمام "المساكنة" مع اليمين المتطرف، مما سيؤدي إلى تجاذبات خطيرة.

ماكرون، الذي أكد أنه باقٍ حتى آخر لحظة من ولايته، يجد نفسه أمام وضع يصعب التعامل معه، في ظل إجماع فرنسي على أن استقالة لوكورنو تعمق الأزمة السياسية التي وصفها الإعلام بـ "تسونامي سياسي".

وفي كلمته الوداعية، أشار لوكورنو إلى "الطموحات الفردية"، داعياً السياسيين إلى "تفضيل العمل لمصلحة فرنسا، وليس لمصلحة أحزابهم".