بعد أيام قليلة على صدور وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وما تضمنته من إعلان صريح للتقرب من روسيا على حساب أوروبا، هاجم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الدول الأوروبية بشدة، واصفاً إياها بأنها مجموعة دول «متحللة» يقودها أشخاص «ضعفاء»، لكن أوروبا رفضت الانتقادات الأمريكية ووصفتها بـ«المتعالية» ودعت واشنطن إلى إظهار الاحترام، هل تكون هذه بداية النهاية للتحالف الاستراتيجي الأوروبي الأمريكي الذي ترسخ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؟
وأبدى كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي امتعاضاً علنياً، إزاء الهجوم الحاد الذي وجهه ترامب للدول الأوروبية، ورد رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، على انتقادات ترامب، قائلاً إن الولايات المتحدة يجب أن تتصرف كحليف، وحض الرئيس الأمريكي على «إظهار الاحترام»، بعد وصفه تصريحات ترامب الأخيرة بـ«المتعالية»، وأضاف كوستا أن اختلافات النظرة العالمية بين أوروبا والولايات المتحدة تتسع. ولم تعد الولايات المتحدة تؤمن بالتعددية، ولم تعد ترى في «النظام الدولي القائم على القواعد» إطاراً لكبح جماح نفسها، بل إنها تدين تغير المناخ باعتباره كذبة. تقارب واشنطن موسكو وسط التقارب الأخير الذي حصل بين موسكو وواشنطن، مع مساعي ترامب لإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية، تتزايد المخاوف الأوروبية من احتمالية أن يسعى ترامب إلى إبرام صفقة مع بوتين دون اعتبار لمصالح كييف والدول الأوروبية المجاورة.
هذا السيناريو يضع دولاً مثل بولندا ودول البلطيق في مواجهة مباشرة مع تهديد أمني متصاعد؛ ما قد يدفعها إلى المواجهة، ويكافح الأوروبيون، سواء في حلف شمال الأطلسي أو في الاتحاد الأوروبي، من أجل أن يسمع صوتهم، بينما يركز ترامب على إبرام صفقة مع بوتين لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ومع كل تصريح جديد يتفوّه به ترامب، تبدو رغبته أكثر وضوحاً في فرض تسوية سلام بالقوة، دون أي اعتبار لاعتراضات الأعضاء في حلف شمال الأطلسي الناتو. تحمل المسؤولية على مدى سنوات اتهم ترامب الحلفاء الأوروبيين بالتقاعس عن تمويل دفاعهم، واعتبر الاتحاد الأوروبي خصماً اقتصادياً، إلا أن الوثيقة الجديدة وتصريحاته الجديدة في موقع «بوليتيكو» بوصف القادة الأوروبيين بالضعفاء، تذهب أبعد من ذلك؛ إذ تدعو الدول الأوروبية إلى تحمّل المسؤولية الأساسية عن أمنها، وتشير إلى أن الولايات المتحدة لم تعد مضطرة لضمان أمن القارة. وطالما حدثت خلافات قوية بين الولايات المتحدة وأوروبا على مدار الأعوام المئة المنصرمة، لكن الأزمة الحالية هي المرة الأولى التي يكون الخلاف فيها بتلك الحِدّة، وليس فقط حول مصالح مُحدَّدة، وإنما حول القيم المشتركة بين القارة العجوز وأمريكا.
عجز مكتسب
ويؤكد محللون أن اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة ليس أمراً مفروغاً منه، ولكنه عجز مُكتَسب على مدار 80 عاماً، ويجب أن يبدأ التخلص منه الآن، حيث أوضحت واشنطن على مدى سنوات أن أوروبا أصبحت منطقة ذات أولوية أقل مقارنة بمنافستها الاستراتيجية الرئيسية – الصين. ومع ذلك، لا تزال القارة الأوروبية غير قادرة على استيعاب فكرة أن الولايات المتحدة قد تولي اهتماماً أقل لأمنها.ووفق تقرير لمعهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، فقد أدت عودة ترامب إلى «رفع المخاوف حول التزام أمريكا بأوروبا إلى مستوى جديد»، ما يتطلب استثماراً في «قوة ردع أوروبية قوية».
وشهد العام 2025 عدة مؤشرات على الاستجابات الأوروبية في مجال الدفاع، تمهيداً للانفصال عن أمريكا، فمع تجاوز الإنفاق الدفاعي حاجز 380 مليار يورو في القارة، كانت المشتريات العسكرية ترتفع 39% عن عام 2023 بفاتورة تتجاوز 100 مليار يورو. علماً أن فرنسا وبريطانيا تمتلكان الأسلحة والتكنولوجيا اللازمة، ولكنهما لا تستطيعان تحمل تكاليف التوسعة اللازمة للترسانة العسكرية الأوروبية، ولذا فإنه يتعين على الدول الأوروبية الأخرى أن تساعد في دفع التكاليف.
هذا التوجه يعكس رغبة فرنسا ودول أوروبية أخرى في تعزيز قدرتها على التصرف بشكل مستقل تجاه القضايا العالمية، ومنها العلاقات مع الصين لتجنب أن تكون أوروبا مجرد تابع في السياسات الدولية الكبرى.إعادة تقييم ويشير المحللون إلى أن واشنطن لن تتخلى كلياً عن أوروبا، خاصة بعد استثمارها نحو 4 تريليونات دولار فيها، لكن الديناميكية العامة واضحة: واشنطن تتراجع. لكن هذا التوجه قد يدفع دول الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم شراكاتها التجارية وتوسيع علاقاتها مع دول آسيا وأفريقيا لتعويض الخسائر المحتملة.