غرينلاند تشتعل صراع النفوذ بين ترامب وحلفاء أوروبا

أصبح القطب الشمالي، الذي كان يُعتبر لعقود طويلة منطقة نائية ومجمدة، بؤرة جديدة للصراع الجيوسياسي، وذلك بفعل التغير المناخي الذي يفتح ممرات ملاحية جديدة ويسهل الوصول إلى موارد طبيعية هائلة.

وفي هذا السياق المتسارع، اكتسبت المناورات العسكرية أهمية متزايدة، وأصبحت رسائل صريحة بين القوى الكبرى.

في هذا الإطار، لم يكن حفل "أركتيك لايت 2025" في غرينلاند مجرد تدريب عسكري روتيني، بل كان بياناً دبلوماسياً صريحاً، لفت الأنظار ليس فقط بسبب المشاركين فيه، بل الأهم من ذلك، بسبب الطرف الذي غاب عنه: الولايات المتحدة.

شهدت هذه المناورات، التي حضرها وزراء دفاع الدنمارك وآيسلندا والنرويج، مشاركة أكثر من 500 جندي من أربع دول أعضاء في حلف الناتو هي الدنمارك، والنرويج، وفرنسا، والسويد.

وأكد وزير الدفاع الدنماركي، ترويلس لوند بولسن، أن الهدف الرئيسي هو تعزيز "حضور القوات المسلحة بشكل كبير في المنطقة القطبية الشمالية وشمال الأطلسي".

هذه الكلمات تحمل في طياتها رسالة واضحة مفادها أن الدول الأوروبية باتت تأخذ زمام المبادرة في تأمين مصالحها الإقليمية، وتعمل على تعزيز قدراتها الدفاعية بشكل جماعي، وهو ما قد يُنظر إليه على أنه تحرك استباقي في ظل المواقف الأمريكية المتغيرة تجاه الحلف.

يُعد غياب واشنطن عن هذه المناورات أمراً لافتاً، خاصة بالنظر إلى الاهتمام الأمريكي المتزايد بالجزيرة.

توترات عميقة

فمنذ عودته إلى البيت الأبيض، أكد الرئيس دونالد ترامب مراراً وتكراراً أن الولايات المتحدة تحتاج إلى غرينلاند لأسباب أمنية واستراتيجية، وهي المطالب التي أثارت توترات دبلوماسية عميقة مع الدنمارك.

ترامب، الذي يرى في الجزيرة صفقة عقارية محتملة، لا يرى فقط في غرينلاند مورداً غنياً بالثروات المعدنية النادرة، بل يعتبرها حصناً دفاعياً حاسماً للولايات المتحدة.

ودفعت هذه المواقف بالإدارة الأمريكية إلى توجيه انتقادات شديدة لكوبنهاغن، متهمة إياها بعدم استثمار ما يكفي في الدفاع عن الجزيرة، في محاولة للضغط عليها لزيادة الإنفاق أو التنازل عن سيادتها.

وقد كشفت تقارير سابقة أن شخصيات مقربة من ترامب قامت بأنشطة في المنطقة لتعزيز النفوذ الأمريكي بشكل غير رسمي، مما يؤكد أن اهتمام واشنطن بالجزيرة يتجاوز مجرد التصريحات السياسية.

وتكمن الأهمية الاستراتيجية لغرينلاند في موقعها الفريد الذي يجعلها بوابة رئيسية للقطب الشمالي، مما يمنحها قيمة عسكرية كبيرة.

فمن جهة، تعد الجزيرة جزءاً حيوياً من نظام الدفاع الصاروخي الباليستي الأمريكي، حيث تستضيف قاعدة ثول الجوية، التي تعتبر أقصى قاعدة عسكرية أمريكية في الشمال.

ذوبان الجليد

ومن جهة أخرى، يمنحها ذوبان الجليد ميزة إضافية، إذ يفتح ممرات ملاحية جديدة بين آسيا وأوروبا، ما يجعلها مركزاً اقتصادياً وتجارياً محتملاً.

هذه الميزات الجغرافية والعسكرية والاقتصادية تجعل من غرينلاند هدفاً ليس فقط للولايات المتحدة، بل أيضاً لقوى عظمى أخرى مثل روسيا والصين، التي تسعى لزيادة نفوذها في المنطقة القطبية.

وإن كان غياب الولايات المتحدة عن المناورات قد يعكس حالة من التباعد في أولويات الدفاع، فإنه يحمل في طياته دلالات أوسع على مستقبل حلف الناتو.

فالولايات المتحدة، التي كانت دائماً حجر الزاوية في الدفاع عن القارة الأوروبية، بدأت تتبنى سياسات "أمريكا أولاً" التي تدفع حلفاءها الأوروبيين إلى الاعتماد أكثر على أنفسهم.

هذه المناورات الجماعية، التي ضمت دولاً أوروبية فقط، تُعد بمثابة رسالة واضحة من هذه الدول بأنها مستعدة وجاهزة لحماية مصالحها المشتركة بشكل مستقل، وتأكيداً على قوة التحالفات الأوروبية الداخلية.

وفي الختام، يمكن القول إن مناورات "أركتيك لايت 2025" لم تكن مجرد تدريب عسكري، بل كانت حدثاً جيوسياسياً بامتياز.

لقد سلطت الضوء على الأهمية المتزايدة للقطب الشمالي كميدان جديد للتنافس الدولي، كما كشفت عن التوترات الكامنة داخل التحالف الغربي.

إن غياب واشنطن عن هذا الحدث في منطقة تعتبرها حيوية لمصالحها، يطرح تساؤلات جدية حول مدى التزامها بالتعاون الدفاعي مع حلفائها التقليديين، ويؤكد أن مستقبل غرينلاند، والمنطقة القطبية بأكملها، سيشكل أحد أكثر فصول الدبلوماسية الدولية تعقيداً في السنوات القادمة.