حوّلت بكين "أدوات القرطاسية" إلى سلاح جيوسياسي لا يُستهان به، لتؤكد للعالم أن السيادة على الخريطة لا تقل أهمية عن السيطرة العسكرية على الأرض.
ففي مشهد يجمع بين السخرية والتهديد الصارم، لم تتردد الجمارك الصينية في مقاطعة شاندونغ في إطلاق صافرة الإنذار ضد 60 ألف خريطة دولية، كان "خطؤها الوحيد" أنها لم تُرسم وفقاً للأجندة السياسية لبكين، متجاهلة بذلك "عقيدة التايوان الواحدة" أو حاذفة "خط النقاط التسع" المتنازع عليه.
هذا الإجراء ليس مجرد تفتيش روتيني، بل هو إعلان صريح بأن أي شركة أجنبية تُصدّر إلى الصين يجب أن تخضع لقانون "الجغرافيا الوطنية"، وإلا ستواجه المصادرة الفورية وغرامات تصل إلى 70 ألف دولار، لتتحول القوانين المحلية إلى أداة لفرض الرؤية الصينية للحدود على الاقتصاد العالمي بأسره.
صادر ضباط الجمارك الصينيون في مقاطعة شاندونغ الشرقية ما يصل إلى 60 ألف خريطة مُعدة للتصدير، معلنين أنها تحمل "توصيفاً خاطئاً" لجزيرة تايوان التي تحكم نفسها بنفسها، والتي تعتبرها بكين جزءاً من أراضيها.
وقالت السلطات إن الخرائط أيضاً "أغفلت جزراً مهمة" في بحر الصين الجنوبي، حيث تتداخل مطالبات بكين مع مطالبات جيرانها، ومن ضمنهم الفلبين وفيتنام. وأكدت السلطات أن الخرائط "المثيرة للإشكاليات" لا يمكن بيعها لأنها "تُعرّض الوحدة الوطنية والسيادة وسلامة الأراضي" الصينية للخطر.
كشفت الجمارك الصينية أن الخرائط لم تتضمن أيضاً خط النقاط التسع (nine-dash line)، الذي يحدد مطالبات بكين بجميع أجزاء بحر الصين الجنوبي تقريباً. ويتكون الخط من تسع نقاط يمتد لمئات الأميال جنوباً وشرقاً من أقصى مقاطعات الصين الجنوبية، هاينان.
وتُعد الخرائط موضوعاً حساساً للغاية؛ ففي عام 2016، رفضت محكمة تحكيم دولية منظمة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) الأساس القانوني لهذا الخط، إلا أن الصين ترفض الاعتراف بالقرار وتستمر في فرضه عبر القوانين المحلية، رغم دعوة 27 حكومة عالمية لاحترام قرار المحكمة.
وأضافت السلطات أن الخرائط المصادرة لم تُشر أيضاً إلى الحدود البحرية بين الصين واليابان، ووُصفت فيها "مقاطعة تايوان" بشكل خاطئ دون تحديد طبيعة الخطأ، بينما تصر تايوان على أنها كيان متميز وله قادته المنتخبون ديمقراطياً.
وتأتي هذه الخطوات في ظل تصاعد التوترات، كما حدث مؤخراً باشتباك بين سفن صينية وفلبينية في بحر الصين الجنوبي، حيث اتهمت مانيلا سفينة صينية بصدم متعمد وإطلاق مدافع المياه، بينما قالت بكين إن السفينة الفلبينية هي التي "اقتربت بشكل خطير" من السفينة الصينية.
وتُعد الفلبين وفيتنام أيضاً شديدتا الحساسية تجاه تصوير بحر الصين الجنوبي في الخرائط؛ وكان فيلم "باربي" لعام 2023 قد مُنِع في فيتنام ورُقّب في الفلبين بسبب عرضه خريطة تتضمن خط النقاط التسع.
وقد بنت بكين ترسانة قانونية صارمة لفرض رؤيتها الجغرافية، حيث تشمل العقوبات على استخدام الخرائط غير المعتمدة غرامات ضخمة تتراوح بين 10 آلاف إلى 500 ألف يوان صيني (ما يعادل حوالي 1400 إلى 70 ألف دولار أمريكي)، مما يجعل الشركات الأجنبية المُصدِّرة والمصنِّعة ومنها المصدرة لمختلف السلع العالمية من الأضواء إلى الأدوات المكتبية "تسير على أطراف أصابعها" حول القضايا الحساسة لضمان "السلوك الصحيح" وتجنب التدمير النهائي لبضائعها التي تفشل في التفتيش الجمركي.
هذا التطبيق الصارم للقوانين يفرض على الشركات الأجنبية تحمل عبء الإجراءات التي تهدف لحماية المصالح الوطنية الصينية. ويُضاف إلى ذلك، القيود الصارمة على بيانات تحديد المواقع الجغرافية (GPS) في الصين، مما يؤدي إلى عدم تطابق الخرائط عبر الإنترنت مع الخرائط الساتلية في العديد من التطبيقات.
هذا السلوك ليس جديداً، ففي مارس، صادر ضباط الجمارك في مطار تشينغداو دفعة من 143 خريطة ملاحية بسبب "أخطاء واضحة" في الحدود الوطنية. كما صادروا في أغسطس بمقاطعة خبي خريطتين احتوت على "رسماً خاطئاً" للحدود التبتية.
وفي تصعيد جيوسياسي يعكس مدى جدية بكين، أصدرت وزارة الموارد الطبيعية الصينية في أغسطس 2023 "خريطة الصين القياسية إصدار 2023"، والتي أعادت التأكيد على مطالباتها ببحر الصين الجنوبي وأراض متنازع عليها مع الهند وروسيا، مما أثار احتجاجات رسمية من الفلبين، وماليزيا، وفيتنام، والهند، واليابان، لتتحول الخريطة فعلياً إلى سلاح دبلوماسي يحدد معالم التوتر في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.


