هيساهيتو "اليعسوب الياباني ".. معضلة الذكور والإناث في العرش الإمبراطوري

في قصرٍ عتيق تهمس جدرانه بتاريخ ألف عام، أشرقت شمس جديدة على سلالة عريقة، مع بزوغ فجر أميرٍ شابٍ يُدعى هيساهيتو.

إنه أول ولي عهدٍ يبلغ سن الرشد بعد 4 عقود من الصمت، لكن هذا البهاء يخفي في طياته قلقاً عميقاً، فخيوط المستقبل تبدو باهتة لأقدم ملكية في العالم، التي تتشبث بتقاليد عابرة تتناقص أعدادها يوماً بعد يوم.

لم يكن الأمير هيساهيتو مجرد وريثٍ للعرش، بل كان حارساً لعالمٍ من الأجنحة الشفافة والألوان الزاهية. فبين أسوار القصر، وجد شغفه في اليعاسيب التي تراقصت فوق مياه بحيراته، وكرّس نفسه لدراستها بعينٍ شغوفة وعقلٍ منير.

لقد كان عالماً صغيراً في ثياب أمير، يجد في جناح كل حشرة قصة، وفي كل رحلة طيران فلسفة، لتصبح هذه الكائنات الصغيرة مرآةً لروحه، ولقباً يحمله بفخر: أمير اليعسوب.

يقف الأمير هيساهيتو وحيداً على مفترق طريق، فهو الثاني في ترتيب ولاية عرش الأقحوان، ومن المرجح أن يُصبح إمبراطوراً يوماً ما، لكن بعده، يسود الفراغ.

إنها معضلة وجودية تهدد استمرارية سلالةٍ عمرها 1500 عام، وتُلقي على عاتقيه وحده عبء مصير العائلة الإمبراطورية.

فبينما يطالب البعض بتغيير قانون الخلافة الذكوري ليمنح الأمل لبنات الإمبراطور، يقف التقليديون حاجزاً، تاركين الأمير الشاب يحمل على كاهله ثقل التاريخ، وخوف أن يكون هو الشعلة الأخيرة.

فهو أول ذكر في العائلة المالكة يبلغ سن الرشد منذ 40 عاماً. ويخشى الكثيرون في اليابان من أن يكون هو آخر الأباطرة.

تُعد الطقوس المعقدة التي أقيمت في القصر يوم السبت للاعتراف رسمياً ببلوغ الأمير هيساهيتو سن الرشد تذكيراً بالنظرة القاتمة لمستقبل أقدم ملكية في العالم، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى سياستها التي تحصر الخلافة على الذكور وتناقص عدد أفراد العائلة.

أقيمت طقوس بلوغ هيساهيتو سن الرشد بعد عام من بلوغه الثامنة عشرة، وهو السن القانوني للرشد، لأنه أراد التركيز على امتحانات القبول بالجامعة.

وفي الطقس الرئيسي الذي أُقيم في القصر الإمبراطوري، وحضره أفراد آخرون من العائلة المالكة وكبار المسؤولين الحكوميين، ارتدى الأمير هيساهيتو زياً تقليدياً بعباءة بلون البيج، وهو ما يرمز إلى وضعه قبل سن الرشد.

ثم غيّر الأمير المتوج زيه إلى لباس الكبار بلون أسود، واستقل عربة ملكية تجرها الخيول للصلاة في الأضرحة الثلاثة داخل مجمع القصر.

لم تكن الطقوس مجرد احتفال، بل كانت رحلةً عبر الزمن. ارتدى الأمير حلةً رسمية ليُتوّج بتاجٍ أرسله الإمبراطور ناروهيتو، رمزاً للمسؤولية التي تنتظره.

وفي حفل مهيب، تبدّل زيّه بعباءة تقليدية بيضاء، قبل أن يضع على رأسه التاج الأسود "كانموري"، ليتحول رسمياً من أميرٍ إلى وريثٍ للمجد.

هيساهيتو هو الثاني في ترتيب ولاية عرش الأقحوان، ومن المرجح أن يصبح إمبراطوراً يوماً ما، ومع ذلك، لا يوجد أحد بعده في ترتيب الخلافة، مما يضع العائلة الإمبراطورية أمام معضلة حول ما إذا كان ينبغي عليها التراجع عن قرار يعود للقرن التاسع عشر ألغى الخلافة النسائية.

استقبلته غرفة "ماتسو نو ما"، أو غرفة الصنوبر، حيث تتنفس الجدران عبق الأجيال، ليحيّي عمه الإمبراطور ناروهيتو وعمته الإمبراطورة ماساكو في لحظةٍ من الاحترام المتبادل.

وهنا، في جوٍ يجمع بين الحاضر والماضي، تسلّم الأمير وسام "الوشاح الأكبر لأعلى وسام الأقحوان"، كأنه يرتدي نجماً جديداً في سماء العائلة، عربون وفاء وتقديراً لمسيرةٍ لم تبدأ بعد.

ولم تكتمل رحلته إلا بزيارةٍ تحمل في طياتها دفء الحكمة، حيث توجه إلى قصر جديه، الإمبراطور السابق أكيهيتو والإمبراطورة السابقة ميتشيكو، لينهل من معين خبرتهما، ويأخذ بيديه إرثاً لا يُقدّر بثمن، في مشهدٍ يعكس ترابط الأجيال وقيمة التقدير.

وفي جنح الليل، تحوّل الاحتفال الرسمي إلى لقاءٍ عائلي حيث استضاف ولي العهد أكيشينو وزوجته الأميرة كيكو احتفالاً خاصاً في أحد فنادق طوكيو، ليكون لحظة استراحةٍ للقلب من وطأة البروتوكول، يلتئم فيها شمل العائلة احتفاءً بابنهم الذي أصبح حاملاً للواء الأمل.

رحلة الأمير لم تنتهِ بعد، ففي الأيام القادمة، سيخوض رحلة روحية إلى جذور سلالته، زائراً ضريح إيسي، أعظم مزار شنتو في اليابان، وساحة ضريح الإمبراطور الأسطوري الأول جينمو في نارا.

وسينحني إجلالاً أمام ضريح جده الأكبر، إمبراطور الحرب هيروهيتو في ضواحي طوكيو، ليُجدّد عهده مع التاريخ.

وهكذا، يواصل الأمير هيساهيتو مسيرته، حاملاً عباءة الواجب على كتفيه، بينما يظل قلبه معلقاً بأجنحة اليعاسيب.

إنه أميرٌ يواجه مصيراً عظيماً، في عالمٍ باتت فيه الأباطرة أشباه أساطير، لكنه يثبت أن في روحه شغفاً بالحياة، وفي قلبه وعداً لمستقبلٍ لم تكتمل فصوله بعد.

يدرس الأمير هيساهيتو علم الأحياء في جامعة تسوكوبا القريبة من طوكيو، ويستمتع بلعب كرة الريشة، وهو شغوف بشكل خاص باليعاسيب، وشارك في تأليف ورقة أكاديمية حول مسح للحشرات في أراضي قصر أكاساكا بطوكيو.

وفي أول مؤتمر صحفي له في مارس، قال الأمير إنه يأمل في تركيز دراساته على اليعاسيب وغيرها من الحشرات، بما في ذلك طرق حماية أعداد الحشرات في المناطق الحضرية.

وُلد هيساهيتو في 6 سبتمبر 2006، وهو الابن الوحيد لولي العهد الأمير أكيشينو وزوجته ولية العهد الأميرة كيكو. لديه شقيقتان أكبر منه سناً، وهما الأميرة المحبوبة كاكو والأميرة السابقة ماكو، التي تطلب زواجها من شخص من خارج العائلة المالكة أن تتخلى عن وضعها الملكي.

الأمير هيساهيتو هو ابن شقيق الإمبراطور ناروهيتو، الذي لديه ابنة واحدة هي الأميرة أيكو. وكان والد هيساهيتو، أكيشينو، الأخ الأصغر للإمبراطور، آخر ذكر يبلغ سن الرشد في العائلة، وكان ذلك في عام 1985، هو أصغر أعضاء العائلة الإمبراطورية البالغ عددهم 16 فرداً.

وهو ووالده هما الوريثان الذكران الوحيدان الأصغر سناً من الإمبراطور ناروهيتو. الأمير هيتاشي، الأخ الأصغر للإمبراطور السابق أكيهيتو، هو الثالث في ترتيب ولاية العرش، ولكنه يبلغ من العمر 89 عاماً بالفعل

ويُعد النقص في عدد الذكور المؤهلين للخلافة مصدر قلق جاد للملكية، التي يقول المؤرخون إنها استمرت 1500 عام. وتعكس هذه القضية تزايد شيخوخة السكان في اليابان وتقلص عددهم.

كانت اليابان تقليدياً تتّبع نظام الأباطرة الذكور، ولكن كانت الخلافة النسائية مسموحة. وقد حكمت ثماني إمبراطورات، من بينهن الإمبراطورة الأخيرة غوساكوراماتشي التي حكمت من 1762 إلى 1770، ومع ذلك، لم تنجب أي منهن وريثاً خلال فترة حكمها.

تم حصر الخلافة قانونياً على الذكور للمرة الأولى في عام 1889 بموجب دستور ما قبل الحرب. وقانون البيت الإمبراطوري لعام 1947، الذي حافظ إلى حد كبير على قيم الأسرة المحافظة في فترة ما قبل الحرب، لا يسمح بالخلافة إلا للذكور أيضاً.

لكن الخبراء يقولون إن نظام الخلافة الذكوري فقط معيب هيكلياً، ولم ينجح في الماضي إلا بفضل مساعدة المحظيات اللاتي كن يُنجبن أطفالاً إمبراطوريين حتى ما قبل 100 عام، لا يمكن للأميرة أيكو، الابنة الوحيدة للإمبراطور ناروهيتو والإمبراطورة ماساكو، أن تكون خليفة لوالدها، على الرغم من دعم الكثير من الشعب لها لتصبح ملكة في المستقبل.

لمعالجة المخاوف المتعلقة بالخلافة، وضعت الحكومة اقتراحاً للسماح بإمبراطورة في عام 2005، لكن ولادة هيساهيتو غيرت مسار الأمور بسرعة، وتراجع القوميون عن دعم الاقتراح.

وفي يناير 2022، أوصت لجنة خبراء محافظة إلى حد كبير الحكومة بالحفاظ على الخلافة الذكورية، مع السماح للعضوات الإناث بالاحتفاظ بوضعهن الملكي بعد الزواج ومواصلة واجباتهن الرسمية. واقترح المحافظون أيضاً تبني أحفاد ذكور من العائلات الملكية البعيدة المنقرضة لمواصلة السلالة الذكورية.

لكن النقاش تعثر بسبب مسألة ما إذا كان سيتم منح وضع ملكي لمن يتزوج الأميرات من غير أفراد العائلة الملكية ولأطفالهم.

وقال الرئيس السابق لوكالة رعاية القصر الإمبراطوري شينغو هاكيتا في مقال بصحيفة يوميوري في وقت سابق من هذا العام إن هذا النقاش المتعثر أجبر هيساهيتو على تحمل عبء مصير العائلة الإمبراطورية بمفرده.

وأضاف: "السؤال الأساسي ليس ما إذا كان سيُسمح بالخلافة الذكورية أم النسائية، بل كيف يمكن إنقاذ الملكية".

أصدرت صحيفة يوميوري المحافظة اقتراحها الخاص في مايو، داعية إلى تعديل عاجل لقانون البيت الإمبراطوري لمنح وضع ملكي لأزواج الأميرات وأطفالهن والسماح للنساء بتولي العرش، ودعت البرلمان إلى "الوصول بمسؤولية إلى حل للأزمة المحيطة بالدولة ورمز وحدة الشعب".