شهدت سوريا خلال عام على سقوط نظام الأسد تحولات في السياسة الخارجية وتموضعها الاستراتيجي، ليس فقط من ناحية انهيار ما كان يسمى «محور الممانعة»، بل في هوية السياسة الخارجية السورية، التي اتجهت شرقاً، وتحديداً نحو المدار السوفييتي منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي.
اليوم لم تنقلب سوريا على محور شرقي تجسده اليوم روسيا والصين بدرجة أساسية، ولم تنضم إلى نادي السياسات الأطلسية، بقيادة الولايات المتحدة، لكن انعدام التوازن والاختلال الاستراتيجي، الذي عاشته سوريا خلال العقود السبعة الماضية يشهد نهاية ناعمة وتدريجية، عبر فتح الأبواب المغلقة أمام سوريا، وهذه الأبواب لم تغلقها فقط الحكومات المتعاقبة على الحكم في دمشق، بل أيضاً طبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي في تلك المرحلة وحتى عام سقوط الأسد. حالة التوازن الحالية من شأنها إعادة بناء موقع سوريا في العلاقات الدولية، بدون أن تحصر نفسها في محور أيديولوجي غير مثمر، ولا يعود بمكاسب على الشعب السوري.
مع سقوط النظام السابق بدأت تتشكل ملامح مقاربة جديدة أكثر انفتاحاً على العالم العربي والخليج والغرب الأطلسي، تكاد تعيد رسم الخريطة الاستراتيجية لسوريا بالكامل.
منذ الخمسينيات تشكلت علاقة وثيقة بين دمشق والاتحاد السوفييتي آنذاك، وتطورت خلال حكم الأسد الأب والابن إلى تحالف عسكري وأمني كامل، ومع التدخل الروسي عام 2015 باتت سوريا جزءاً محورياً من استراتيجية موسكو في شرق المتوسط، وفي المقابل توسعت إيران في المجالين الأمني والعقائدي داخل مؤسسات الدولة، لتتحول العلاقة من شراكة سياسية إلى تبعية كاملة، لكن هذا المحور بدأ يتآكل مع انشغال موسكو في أوكرانيا، وتراجع موارد إيران، ما مهد لفراغ استراتيجي ظهر بوضوح مع سقوط النظام السابق.
أدّى انهيار نظام الأسد إلى تفكك منظومة النفوذ المرتبطة بما كان يسمى «المحور الشرقي»، كما سمح التغيير بإعادة هيكلة المؤسسات الدبلوماسية، وعودة الخطاب الرسمي إلى لغة «السيادة والانفتاح» بدلاً من «المحاور والتحالفات العقائدية».
على المستوى الشعبي شهدت سوريا تبدلاً لافتاً في المزاج العام، مع رغبة واسعة في الاندماج العربي والخروج من العزلة التي عاشتها البلاد.
المدار الأطلسي
برزت لحظة نادرة لفتح قنوات سياسية واقتصادية بين دمشق وواشنطن والعواصم الأوروبية، ولعل المواقف الأمريكية خير دليل على جدية سوريا في خلق علاقات متوازنة دولياً، وقد أثنى الرئيس دونالد ترامب على أداء الرئيس أحمد الشرع عدة مرات وتحديداً قيادته مسار انفتاح في السياسة الخارجية.
الولايات المتحدة تتعامل مع سوريا باتجاه ثلاثة ملفات: مكافحة الإرهاب – ضبط الحدود – الحد من نفوذ الميليشيات، وعلى رأسها «حزب الله» اللبناني.
أما أوروبا فتضع الاستقرار والتنمية واللاجئين في صدارة أولوياتها، ما يجعل سوريا شريكاً محتملاً في إطار جديد من التعاون المشروط، كما تفككت منظومة العقوبات الغربية إلى حد كبير، في ظل مسارات واضحة تتعلق بالحوكمة وإعادة الهيكلة الاقتصادية.
لقد أفادت الدبلوماسية السورية، التي كسبت الاعتراف الأمريكي بقوة الرعاية العربية، في ضبط المشهد الإقليمي في جوارها، في ظل تقاطعات مصالحها مع معظم الأطراف الفاعلة، فضلاً عن سعيها الدائم لمنع أي تصعيد قد يجرها إلى مواجهات.
ويشير هذا التحول إلى مناخ مختلف عن السنوات السابقة، تتحرك فيه العواصم الفاعلة بخطى محسوبة، وتحاول من خلال تفاهمات ضمنية، وأحياناً علنية أن تبقي سوريا خارج دائرة المواجهات الكبرى، على الأقل في هذه المرحلة.
ومع استمرار الدعم العربي، وعودة دمشق التدريجية إلى محيطها تبقى الفرصة متاحة أمام سوريا لإعادة ترتيب علاقاتها، وتحقيق أكبر قدر ممكن من التوازن، بما يسمح لها باستعادة بعض زمام المبادرة في ملفات كانت طوال سنوات رهينة قرارات الخارج.
للمرة الأولى منذ سبعين عاماً تملك سوريا فرصة لإعادة تعريف موقعها الجيوسياسي بعيداً عن المحاور العقائدية، التي كبلتها لعقود.
يتشكل اليوم أرضية توافق سوري عربي غربي يقوم على: الاستقرار والتنمية، وإعادة الإعمار.
وإذا نجحت دمشق في ترجمة هذه التحولات إلى سياسات عملية فقد تصبح خلال السنوات المقبلة جزءاً من منظومة إقليمية جديدة، تعيد وصل الخليج بشرق المتوسط، وتعيد سوريا إلى موقعها الطبيعي دولة مركزية في الشرق الأوسط، ومحور توازن في العلاقات الدولية.
