شهدت سوريا عودة لافتة للاجئين، بوتيرة متصاعدة ومستمرة، منذ سقوط نظام الأسد، حيث باتت واحدة من أسرع موجات العودة السكانية في تاريخ النزاعات المعاصرة، بعدما ظلّت طوال أكثر من عقد بلداً طارداً للسكان، إذ بلغ عدد اللاجئين السوريين في الخارج نحو 6.1 ملايين لاجئ وطالب لجوء مع نهاية عام 2024، إلى جانب 7.4 ملايين نازح داخلي، يعيشون ظروفاً متباينة من انعدام الأمن والخدمات.
إن التغير السياسي الكبير الذي شهده البلد أواخر 2024، والدور العربي المتنامي في دعم المرحلة الانتقالية، إضافة إلى رغبة الدول المضيفة في تخفيف أعباء اللجوء، شكّلت كلها عوامل دفعت باتجاه موجة عودة واسعة، لم يشهدها الملف السوري منذ اندلاع الأزمة عام 2011.
شهد عام 2024، في ظل نظام الأسد، عودة نسبية للاجئين، ووثّقت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عودة 476 ألفاً إلى بلادهم، إلى جانب عودة 376 ألف نازح داخلي إلى مناطقهم الأصلية. لكن هذه العودة كانت مدفوعة لظروف قهرية لهؤلاء، وليس إلى تحسن الأوضاع، أو زوال التهديد الأمني على حياتهم، فقد كانت حكاية مغامرة خاطروا فيها بحياتهم، وعرضوا أنفسهم لمساءلات أمنية طويلة في الفروع الأمنية.
المنعطف الحقيقي بدأ بعد سقوط الأسد، حيث تسارعت العودة بشكل لافت. فمنذ بداية 2025 وحتى منتصفه، سجّلت المفوضية عودة تجاوزت 500 ألف لاجئ من تركيا ولبنان والأردن والعراق، وهي الدول التي استضافت الحصّة الأكبر من السوريين خلال السنوات الماضية. كما ارتفع عدد النازحين العائدين داخلياً إلى أكثر من 1.2 مليون شخص خلال النصف الأول من 2025.
وفي تقارير ميدانية لاحقة للأمم المتحدة، صدرت بين يونيو وأكتوبر 2025، تم تقدير العدد الإجمالي للسوريين العائدين من الخارج بنحو 628 ألف شخص حتى بداية الصيف، قبل أن تقفز الأرقام بصورة أكبر في الخريف. ففي تحديث أممي رسمي بتاريخ 2 أكتوبر 2025، تم الإعلان عن أن عدد العائدين منذ سقوط النظام بلغ 1,082,724 لاجئاً، عادوا فعلياً إلى سوريا، وجرى التحقق من عودتهم. وتشير مصادر موازية إلى أن الرقم الإجمالي الذي يجمع اللاجئين والنازحين العائدين داخلياً، يقترب من 3 ملايين شخص، خلال أقل من عام واحد، لأن عدد النازحين الداخليين الذين عادوا إلى قراهم ومدنهم منذ ديسمبر 2024، يصل إلى حوالي 1.9 مليون نازح.
موجة العودة
وبهذه الأرقام، تعد موجة العودة خلال 2024–2025، من بين أكبر عمليات العودة الطوعية في العالم خلال العقد الأخير. ورغم ذلك، يبقى أكثر من 4.7 إلى 5 ملايين لاجئ سوري خارج البلاد، ما يعني أن سوريا استردّت أقل من ثلث سكانها المهاجرين فقط، وأن الطريق لا يزال طويلاً لاستعادة كتلتها السكانية المفقودة.
الأسباب التي دفعت السوريين للعودة متعددة، فالتغيير السياسي الواسع داخل سوريا، أعاد الإحساس بإمكان استعادة الدولة لوظيفتها الطبيعية، وانحسار قبضة الأجهزة الأمنية التي أرعبت السوريين لعقود. كما أن دول الجوار، وخاصة لبنان وتركيا، بدأت بتشجيع العودة عبر سياسات واضحة، إذ أعلنت بيروت عن برامج عودة منظمة، فيما تشهد تركيا ضغطاً شعبياً وسياسياً متزايداً، لإعادة قسم من اللاجئين الموجودين على أراضيها. وإلى جانب ذلك، فإن الانفتاح العربي والخليجي على سوريا، والحديث عن استثمارات ووعود بإعادة بناء المناطق المدمرة، منح كثيرين شعوراً بأن مرحلة جديدة بدأت، وأن العودة باتت قابلة للحياة.
لكن في المقابل، هناك تحديات كبيرة، تجعل هذه العودة، رغم زخمها. فالتقارير الأممية تؤكد أن سوريا لا تزال من أكثر البلدان تلوثاً بالألغام ومخلّفات الحرب، والخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وصحة وتعليم، ما زالت ضعيفة أو متوسطة في مناطق واسعة. كما أن الفقر يطال أكثر من نصف السكان. وبالتوازي مع ذلك، تتراجع تدريجياً إمكانات المنظمات الأممية بفعل نقص التمويل، ما أدى إلى إغلاق مراكز وبرامج أساسية يحتاجها العائدون.
إعادة الإعمار
تحديات إعادة الإعمار تبدو هائلة، بدورها. فوفق تقدير للبنك الدولي في أكتوبر 2025، تحتاج سوريا إلى ما يقارب 216 مليار دولار لإعادة بناء المباني السكنية والعامة والبنى التحتية الأساسية، مع نطاق أوسع يقدّر الاحتياجات الإجمالية بين 140 و345 مليار دولار. وتشير تقديرات سابقة صادرة عن الإسكوا وبرامج الأمم المتحدة، إلى أن الخسائر التراكمية للناتج السوري منذ 2011 حتى 2024، قد تتجاوز 800 مليار دولار، مقارنة بسيناريو بلد لم يدخل الحرب.
وإلى جانب الخسائر المادية، تظهر تعقيدات قانونية واجتماعية، تتعلق بملكية المساكن، وغياب الوثائق، والنزاعات الداخلية بين السكان المقيمين والعائدين، إضافة إلى الحاجة لخلق مئات آلاف فرص العمل التي تمكن العائلات من البقاء، وعدم التحوّل مجدداً إلى نازحين داخليين أو مهاجرين.
ورغم التحديات، تتفق معظم التقارير الدولية على أن سوريا دخلت «مرحلة عودة» لا رجوع فيها، وأن السنوات 2025–2026، ستشهد تثبيتاً لهذه الموجات. كما أن انخراط الدول العربية في دعم الخدمات، وإعادة الإعمار، سيؤدي إلى تحسين شروط العودة تدريجياً، بشرط توافر بيئة أمنية مستقرة، ووجود مسار سياسي واضح، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
في المحصلة، استعادت سوريا خلال عام واحد كتلة بشرية تتجاوز مليون لاجئ ومليوني نازح، وهذه الوتيرة مرشحة للتصاعد، حتى تصفير عودة كل الراغبين المقيمين في المنافي.
