بعد الصدامات الدامية.. هل أصبحت سوريا «قضية أمنية»؟

جندي إسرائيلي يفتح بوابة على الحدود بين الجولان المحتل وسوريا  
جندي إسرائيلي يفتح بوابة على الحدود بين الجولان المحتل وسوريا  

لم تنتهِ بعد مفاعيل أحداث الساحل السوري الدامية، التي شكّلت واحدة من أكثر المحطات إيلاماً في مسار النزاع السوري منذ سنوات، إذ أسفرت عن مقتل قرابة ألفي شخص، غالبيتهم من المدنيين، حتى اندلعت على نحو مفاجئ شرارة أحداث خطيرة جديدة، هذه المرة على تخوم العاصمة دمشق، حيث شهدت أطرافها الجنوبية اشتباكات عنيفة أودت بحياة العشرات، من مدنيين ومسلحين على حد سواء، في تصعيد غير مسبوق أشعلته مادة مصوّرة اتفق معظم الخبراء على أنها مزوّرة عبر تقنية «التزييف العميق»، وكادت تتحول إلى فتيل لاشتعال حرب أهلية على أسس طائفية ومناطقية.

ورغم السيطرة النسبية على الوضع الميداني، لا يزال خطر توسّع رقعة الصراع قائماً، خصوصاً في ظل بيئة يغلب عليها ضعف الانضباط العسكري لدى فصائل مسلحة محلية، تغذّيها الشائعات والمعلومات المغلوطة، وتفتقر إلى قنوات موثوقة للقيادة والسيطرة. ويُلاحظ أن هذه الفصائل الأقل انضباطاً باتت تشكل النسبة الأكبر من حاملي السلاح في البلاد، ولا سيما في المناطق الريفية والبعيدة عن مراكز المدن الكبرى، حيث ما زال حضور الدولة وقواتها الأمنية والعسكرية هشاً رغم حملات التطوع الكثيفة للمسارعة في حفظ السلم الأهلي.

وما يزيد من خطورة الوضع هو غياب أي عملية سياسية فاعلة على الأرض يمكن لها أن تواكب التطورات الأمنية وتؤسس لاستقرار مستدام. فبغياب مسار سياسي جامع وفاعل، تصبح سوريا مهددة بالتحول إلى «قضية أمن داخلي» على غرار النموذج العراقي في السنوات الأولى التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين عام 2003، حيث تحولت التفجيرات والاشتباكات اليومية إلى الواقع اليومي للناس، فيما كانت العملية السياسية تدور في فضاء موازٍ غير قادر على ضبط السلاح أو إدارة المشهد الأمني المعقّد.

وإذا ما مضت سوريا على هذا المنوال، خاصة بعد المواجهات الأخيرة التي وقعت بين مجموعات مسلحة وفصائل محلية في أحياء ذات غالبية درزية مثل أشرفية صحنايا وجرمانا، فإن تداعيات ذلك قد لا تقتصر على الداخل فحسب، بل تمتد نحو الخارج، عبر تعميق أزمة الثقة الدولية بجدية عملية التعافي في البلاد، وزيادة التحفظات لدى الدول المؤثرة في ملف إعادة الإعمار، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي سبق أن وضعت شروطاً واضحة لأي انخراط إيجابي في دعم سوريا. وكلما استمرت وتيرة مثل هذه الثغرات الأمنية الخطيرة، باتت تلبية هذه الشروط أكثر صعوبة، وهو ما يهدد بتجميد طويل الأمد لأي انفتاح دولي فعّال على دمشق.

وفي هذا السياق، فإن تصاعد وتيرة التوتر الأهلي من شأنه أيضاً أن يعمّق حالة الانفصال والقطيعة بين السلطة المركزية وبعض المناطق التي تمتلك اليوم هياكل أمنية وإدارية مستقلة، مثل شمال وشرق سوريا التي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، ومحافظة السويداء التي تتولى فصائل محلية أمنها بشكل شبه ذاتي.

تنافس إقليمي

بالتوازي مع هذا، كانت سوريا شهدت خلال الأسبوعين الماضيين حالة من التراجع النسبي في حدة التنافس الإقليمي، ولا سيما بين إسرائيل وتركيا، إذ خفّت حدة التصريحات المتبادلة، ما أوحى بوجود فترة هدوء دبلوماسي مؤقت. لكن الاشتباكات الأخيرة في جنوب دمشق أعادت التصعيد الإقليمي إلى الواجهة، حيث سارعت إسرائيل إلى تنفيذ غارات جوية على مناطق عديدة في سوريا.

وبينما تتفاقم هذه التوترات وتتراكم تعقيداتها، تبدو الحكومة السورية في سباق مع الزمن، تحاول عبر مؤسساتها احتواء الحريق الأهلي الذي أشعلته شائعة مصحوبة بمقطع مزيف، في وقت يبدو أن سرعة الأحداث على الأرض تضع الحكومة في امتحان بأن تكون قدرتها على الاستجابة السريعة والفعالة تسبق التصعيد السلبي الذي تغذيه البيئة الفصائلية. وكان أول خطاب للرئيس أحمد الشرع بعد سقوط النظام هو أن زمن الفصائلية يجب أن ينتهي، فالآن المرحلة هي «مرحلة الدولة»، وربما تكون هي وصفة الإنقاذ الأخيرة والمطلوبة بشكل عاجل.