الفيتو الأمريكي "سِفر الخروج" الإسرائيلي من حل الدولتين

في عالم تُعول فيه الأمم على مجلس الأمن كحكم نهائي للعدالة والسلام، يبرز حق النقض (الفيتو) كأداة فريدة قادرة على تغيير مسار التاريخ. لكن عندما يتحول هذا الحق من حماية السلم والأمن الدوليين إلى أداة لتعطيل الإرادة الدولية، تصبح القضية معقدة.

إن تاريخ استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لحق الفيتو في مجلس الأمن ليس مجرد سجل إجرائي، بل هو وثيقة سياسية تكشف عن موقف ثابت تجاه إحدى أقدم القضايا في العالم " القضية الفلسطينية"، ويُعد امتدادًا منطقيًا لسلسلة من الوعود السياسية الدولية، بدءًا من وعد بلفور الذي منح حقًا لأمة على أرض أمة أخرى، وصولًا إلى حصانة دبلوماسية تضمن استمرار سياسات الاحتلال والاستيطان.

استخدمت الولايات المتحدة حق النقض للمرة الأولي ضد فلسطين في 26 يوليو 1973 على مشروع قرار قدمته مجموعة من الدول، من بينها الهند، يوغوسلافيا، والسودان. كان القرار يؤكد على حقوق الشعب الفلسطيني ويطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب عام 1967.

ومنذ سبعينيات القرن الماضي، بدأت واشنطن في استخدام حق النقض بشكل متزايد في مجلس الأمن، لتتحول من الامتناع عن التصويت إلى استخدام الفيتو المباشر.

تُظهر السجلات التاريخية أن الولايات المتحدة قد استخدمت الفيتو 46 مرة في قضايا مرتبطة بفلسطين والشرق الأوسط، وهو ما يمثل أكثر من 50% من إجمالي فيتوهاتها.

أصبح الفيتو الأمريكي درعاً ضد القرارات الأممية التي تدين الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، أو تدعو إلى وقف بناء المستوطنات، أو تطالب بإنهاء العنف ضد المدنيين.

ففي فترات مختلفة، ركزت القرارات على "الوضع في الأراضي العربية المحتلة"، بينما في فترات أخرى كانت تتعلق مباشرة "بالقضية الفلسطينية".

فيتو روتيني

وخلال الثمانينيات والتسعينيات، أصبح استخدام الفيتو أمراً شبه روتيني؛ فكل محاولة من الدول العربية أو غيرها من الدول الأعضاء لتقديم قرارات تدين ممارسات إسرائيل، كانت تواجه على الفور بالفيتو الأمريكي.

كان هذا الحق يُستخدم لضمان عدم تمرير أي نص قد يفرض ضغطاً سياسياً أو دبلوماسياً على تل أبيب، مما منحها حصانة دبلوماسية في المحافل الدولية.

ومع دخول الألفية الجديدة، استمر هذا النمط. ففي العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، واصلت واشنطن استخدام الفيتو لعرقلة القرارات التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال أو حماية حقوق الشعب الفلسطيني.

هذه الأداة لم تعد مجرد وسيلة لتعطيل قرار، بل أصبحت رسالة سياسية واضحة للعالم بأن أي حل للأزمة يجب أن يمر عبر قنوات واشنطن، وليس عبر الإجماع الدولي.

تُظهر السجلات التاريخية أن وتيرة استخدام الفيتو قد تسارعت بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة، خاصة بعد اندلاع الصراع الأخير في أكتوبر 2023.

فمنذ ذلك الحين، استخدمت الحكومة الأمريكية حق النقض (الفيتو) 6 مرات في مجلس الأمن الدولي ضد قرارات تدعو إلى السلام في غزة، كان آخرها مشروع قرار يطالب بوقف فوري ودائم لإطلاق النار والإفراج عن الرهائن.

وبررت نائبة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، هذا الموقف بأن النص لم يذهب بعيداً بما يكفي في إدانة حركة "حماس" أو الاعتراف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

ورغم تصويت جميع الأعضاء الـ 14 الآخرين في المجلس لصالح مشروع القرار الذي وصف الوضع الإنساني في غزة بأنه "كارثي" ودعا إلى رفع قيود المساعدات، فإن الفيتو الأمريكي كان كافياً لإسقاطه.

وأثار هذا القرار ردود فعل غاضبة، حيث وصف السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة رياض منصور القرار بأنه "مؤسف ومؤلم للغاية"، في حين وصفه السفير الباكستاني عاصم أحمد بأنه "لحظة مظلمة".

واعتذر السفير الجزائري عمار بن جامع للشعب الفلسطيني قائلاً: "سامحونا، لأن العالم يتحدث عن الحقوق، لكنه ينكرها على الفلسطينيين. سامحونا لأن جهودنا تحطمت على جدار الرفض هذا".

اتهامات دولية

تأتي هذه الفيتوهات الأخيرة في ظل اتهامات دولية لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وهو ما أكدته لجنة تابعة للأمم المتحدة. هذه السياسة الأمريكية، التي تحظى بدعم إدارتي دونالد ترامب وجو بايدن، تضع واشنطن في موقف عزلة متزايدة على الساحة العالمية.

ويظل سجل الفيتو الأمريكي ضد القرارات المتعلقة بفلسطين شهادة على سياسة خارجية ثابتة، تضع مصالح الحليف فوق الإجماع الدولي ومبادئ العدالة.

لقد أدى هذا الاستخدام المتكرر لحق النقض إلى شل فاعلية مجلس الأمن في واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً في العالم، مما أثار تساؤلات جدية حول مصداقية النظام الدولي ودوره في تحقيق السلام. وبينما تتراكم الأزمات، يبقى الفيتو الأمريكي درعاً يحمي طرفاً، ويقوض في الوقت نفسه آمال الملايين في العدالة والاستقلال.