هل يمكن أن تتكرر النكبة؟

نكبة 1948 ظلت جرحاً مفتوحاً في الوعي الفلسطيني والعربي والإنساني، حتى لو كانت الاعتبارات السياسية وحسابات موازين القوى، على غير وفاق مع حقائق التاريخ والشعور الوجداني. مع كل حرب أو عدوان جديد يعود السؤال: هل يمكن أن تتكرر النكبة؟، وبدا الجواب بالنفي والاستبعاد إلى ما قبل وقت قصير هو السائد والمرجح، على اعتبار أن عالم اليوم تغير بدرجة كبيرة، إذ لم يعد العالم مناطق شبه معزولة، كما في أربعينيات القرن الماضي، بل أصبح قرية صغيرة ينقل فيها الحدث مباشرة ويدخل كل بيت في نفس لحظة وقوعه. عالم اليوم فيه منظومة قانونية دولية ومنظمات حقوقية ومحاكم جنائية.

هكذا صمدت الصورة النمطية عقوداً.. لكن العامين الماضيين أعادا صياغة التفكير على نار القلق المشروع، بعدما شهد العالم كله وما زال يشهد حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، بالمجازر والتهجير والتجويع، وكأن التاريخ يصر على إعادة نفسه مع التخلي عن مساحيق التجميل في هذه المرحلة.

مشاهد غزة في عامين أعادت الأسئلة إلى الواجهة: ألسنا أمام نسخة أخرى من النكبة، وإن بأساليب جديدة؟، وهل الظروف المواتية لتكرار النكبة تتغلب على الظروف المضادة؟. في كفة احتمالات التكرار، ثمة ميزان قوى يميل بشكل سافر إلى إسرائيل المدججة بالسلاح والدعم الغربي بلا حدود، وعلى حد تعبير الباحث الإسرائيلي، إيال زيسر، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، فإن اللحظة الإقليمية تمنح إسرائيل فرصة تاريخية لاستكمال ما بدأته عام 1948، خصوصاً في ظل انشغال دول المنطقة بأزماتها، ما يجعلها أقل استعداداً لمواجهة أي مشروع تهجير. وثمة تعطيل للقرارات الدولية بضغط أمريكي، وتواطؤ غربي رسمي، يمنحان إسرائيل ما يسمى حق الدفاع عن النفس حتى في مواجه مدنيين عزل.

وفي المقابل، لم يعد فلسطيني اليوم ذلك اللاجئ الأعزل في الأربعينيات، بل بات جزءاً من وعي جمعي متجذر وصاحب تجربة نضالية راكمت الدروس والخبرات عبر أجيال، بحيث يصبح من المستحيل تمرير أي مشروع اقتلاع جديد. ويؤكد الباحث الفلسطيني، سعيد عريقات، أن النكبة مستمرة بأشكال مختلفة، لكن الفلسطيني لم يعد قابلاً للاجتثاث كما كان قبل 75 عاماً.

موجات تضامن

ويلعب الإعلام المفتوح دوراً كابحاً.. فمشاهد القصف التي لا تستثني حتى النيام في الخيام، تنتشر في لحظتها إلى كل أنحاء العالم، وتولد موجات تضامن لم يكن لها مثيل في القرن الماضي. التظاهرات المليونية في العديد من العواصم الأوروبية، وحملات المقاطعة التي تحرج شركات كبرى، والضغط المتنامي في البرلمانات الغربية، كلها عوامل تجعل التهجير الشامل مغامرة مكلفة سياسياً. وحتى داخل المجتمعات الغربية، بدأ الرأي العام يتحرك، حيث أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تراجعاً في التأييد غير المشروط لإسرائيل، وبخاصة بين الشباب، حسب تقرير مركز بيو للأبحاث.

مفترق طرق

بين التفوق العسكري الإسرائيلي والتجذر الفلسطيني، نحن أمام مفترق طرق.. صحيح أن تاريخ الصراع أخذ شكل النكبات الصغيرة، حصاراً، قصفاً، اقتحاماً، تهجيراً جزئياً، وحملات اعتقال، لكن نسخة 1948 باتت مستحيلة، لأن الزمن تغير فعلاً، ولم يعد العالم يسمح باقتلاع شامل بلا شهود. وحين نتحدث عن العالم، فإننا لا نحصره بالحكومات، بل بالشعوب ومنظمات المجتمع المدني الحقيقية وصرخات الضمير. وعلى هذه الأرضية تجري المعركة بين عقلية الاقتلاع وإرادة الصمود.. الرواية هنا لا تكتب بالطائرة والدبابة فحسب، بل بالإرادة والحق التاريخي.