تتعرض سوريا منذ شهور لضغط إسرائيلي مستمر يتخذ أشكالاً متعددة من الغارات الجوية، إلى التوغلات البرية في عمق الأراضي السورية، وآخر هذه العمليات تمثل في توغل قوة إسرائيلية قوامها 11 آلية عسكرية وما يقارب 60 جندياً، والسيطرة على تل باط الوردة في سفح جبل الشيخ، وهي خطوة وصفتها الخارجية السورية بأنها «انتهاك سافر لسيادة البلاد ووحدة أراضيها».
لم يكن هذا التوغل حدثاً معزولاً، بل استمرار لمسار متصاعد من التحركات الميدانية الإسرائيلية التي تركز في نطاق الجولان السوري المحتل ومحيط جبل الشيخ، حيث أقيمت نقاط أمنية ومراكز استخبارية في الشهور الأخيرة، وزادت وتيرة هذه العمليات بعد الأحداث الدامية التي شهدتها محافظة السويداء قبل أسابيع.
المفارقة تكمن في أن هذا التصعيد الميداني جاء بعد أيام قليلة من المحادثات التي استضافتها باريس بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر. اللقاء الذي رُوّج له بوصفه نافذة لكسر الجمود السياسي لم يسفر عن نتائج ملموسة، إذ لم يُسجَّل أي تواصل لاحق بين الطرفين عقب التوغل الجديد..
بالعكس، بدا أن إسرائيل تتحرك بإصرار أكبر على الأرض، فيما توجهت دمشق إلى الدول الإسلامية والتذكير بانتهاك اتفاقية فصل القوات لعام 1974 والقرارات الأممية، والدعوة إلى موقف إسلامي جامع ضد محاولات شرعنة الاحتلال.
واتفاقية فصل القوات لعام 1974 بين سوريا وإسرائيل هي اتفاق وقع في 31 مايو 1974 في جنيف، برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي حينها، وبإشراف مباشر من الأمم المتحدة.
وذلك بعد حرب أكتوبر 1973. ويقضي بإنشاء خط فصل بين القوات السورية والإسرائيلية في هضبة الجولان، على أن تنسحب إسرائيل من بعض الأراضي التي احتلتها في حرب 1973، ومنها مدينة القنيطرة، التي أُعيدت لسوريا لاحقاً، ومنطقة فصل منزوعة السلاح تحت إشراف قوات دولية، ونشر قوة مراقبة دولية تابعة للأمم المتحدة لمراقبة الالتزام.
فراغ
لكن خطورة المشهد لا تكمن في الخرق الإسرائيلي بحد ذاته، وإنما في التوقيت والسياق.. فالعمليات الإسرائيلية تأتي في لحظة فراغ سياسي داخلي، حيث لم تحسم بعد ملفات الانقسام بين المركز والأطراف، من شمال شرق سوريا إلى الجنوب.
هذه الانقسامات تجعل من الصعب بناء جبهة داخلية متماسكة قادرة على امتصاص الضغوط الخارجية.. فإسرائيل تستفيد عملياً من ثغرات في البيت السوري وتحوله إلى مربعات متباعدة المصالح والولاءات.
ترتيب بيت
وإذا ما استمر هذا النمط من التدخل الإسرائيلي، فإن الحاجة تصبح ماسة لترتيب البيت الداخلي بخطوات أكثر جذرية، تتجاوز المعالجات السائدة. هنا تبرز الانتخابات المزمعة الشهر المقبل كجزء من محاولة صياغة شرعية سياسية جديدة عبر مجلس تشريعي منتخب وفق قانون الانتخابات الجديد، غير أن هذا المسار يواجه تحديات جدية.
فقد أعلنت الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، أن تأجيل الانتخابات في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية ليس صائباً، كما تم تأجيلها في محافظة السويداء، ما يعني أن العملية الانتخابية تفتقد شمولية التمثيل الجغرافي للبلاد ولو أن المبررات منطقية ومنها أنها مناطق خارج سيطرة الدولة السورية.
في المحصلة، يمكن القول إن إسرائيل لا تتحرك فقط في فراغ جيوسياسي إقليمي، بل أيضاً في فراغ داخلي سوري متنام. ومع أن دمشق تصف هذه التوغلات بأنها انتهاكات خطيرة للسيادة، إلا أن الرد الحاسم يأتي من إعادة بناء الداخل السوري على أسس تشاركية تحول دون استمرار انتهاكات الجغرافيا والسيادة..
فالمعادلة الراهنة تعني أن «الأطراف» باتت الخاصرة الرخوة لسوريا، وإذا لم تُدمَج في عقد سياسي متين، فإن كل حديث عن حماية السيادة لن يردع انتهاكات إسرائيل.