منذ سقوط نظام الأسد، بدأت العقوبات الغربية المفروضة على سوريا تدخل مرحلة جديدة كلياً، انتقلت فيها من سياسة «الخنق الشامل» إلى سياسة «الرفع المنظم» مع الإبقاء على نواة صلبة من القيود الموجهة للأشخاص والقطاعات ذات الحساسية الأمنية.
هذا التحول سلسلة خطوات تراكمية بدأت بتخفيف أولي، ثم تحوّلت إلى إعادة هيكلة شاملة لنظام العقوبات، بما غيّر طبيعة علاقة سوريا مع المنظومة المالية والاقتصادية الغربية.
المرحلة الأولى
وهو التخفيف الانتقالي بعد سقوط النظام (ديسمبر2024 – فبراير 2025). مع بداية المرحلة الانتقالية، أبقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على العقوبات الرسمية كما هي، لكنهما شرعا في فتح نوافذ تدريجية باتجاه التعامل مع الحكومة الجديدة والمؤسسات الرسمية. خلال الأسابيع الأولى من سقوط الأسد، أصدرت الولايات المتحدة ترخيصاً عاماً سمح لأول مرة منذ سنوات بالتعامل المالي مع مؤسسات الدولة الجديدة، وسمح بعمليات محدودة في قطاعات الطاقة والتحويلات الشخصية، ضمن إطار زمني مؤقت لاختبار مصداقية التحول السياسي.
في السياق علّق الاتحاد الأوروبي جزءاً كبيراً من القيود المتعلقة بالطاقة، وسمح باستيراد النفط السوري وتصدير معدات النفط والغاز ووقود الطائرات، وفتح المجال أمام القنوات المصرفية المرتبطة بالطاقة والإغاثة، كما أعاد إتاحة التعامل مع بعض المصارف والشركات العامة التي كانت خاضعة لتجميد شامل.
كان واضحاً منذ تلك الفترة أن العقوبات تتحرك من «عقوبات على الدولة» إلى «عقوبات على الأشخاص»، وأن الغرب يتعامل مع سوريا باعتبارها دولة تدخل مرحلة جديدة تستحق مقاربة مختلفة عن سنوات الحرب.
المرحلة الثانية
بدء تفكيك البنية القانونية للعقوبات (مارس – يوليو 2025) حيث تغيّر المشهد جذرياً. ففي الولايات المتحدة، تحوّل الترخيص العام المؤقت إلى ترخيص واسع النطاق مكّن الشركات الأمريكية والأجنبية من دخول معظم القطاعات الاقتصادية السورية، بما في ذلك الاستثمار والخدمات المالية والطاقة، مع السماح بالتعامل مع الحكومة الجديدة والمؤسسات العامة.
هذا الترخيص أزاح عملياً معظم القيود التي قيدت الاقتصاد السوري لسنوات، باستثناء العلاقة مع الأشخاص المصنّفين على قوائم العقوبات. وجاء التحول الأكبر في 30 يونيو حين تم إعلان إنهاء البرنامج الأميركي للعقوبات على سوريا، عبر إلغاء سلسلة من الأوامر التنفيذية القديمة التي شكّلت الأساس القانوني للعقوبات منذ عام 2004، وسحب لوائح العقوبات السورية من السجل الفيدرالي.
بهذه الخطوة انتهت عملياً «عقوبات الدولة»، وبقيت «عقوبات الأفراد والكيانات» المرتبطة بالفساد والجرائم الخطيرة وتجارة المخدرات والارتباط بالتنظيمات المتطرفة أو بإيران.
في أوروبا، جاء القرار السياسي أولاً في مايو، ثم جرى تحويله إلى تشريعات كاملة في نهاية الشهر نفسه، عندما رفع الاتحاد الأوروبي جميع التدابير الاقتصادية التقييدية على سوريا. شمل ذلك رفع الحظر على النفط والغاز والكهرباء والتعاملات المصرفية، وإزالة عدد كبير من الشركات العامة السورية من قوائم العقوبات، بما فيها المصرف المركزي وجهات اقتصادية رئيسية. وبذلك انتهى الجزء الأكبر من العقوبات الاقتصادية الأوروبية التي كانت تمنع سوريا من الاندماج في الاقتصاد الإقليمي والدولي.
ورغم هذا الرفع الواسع، أبقى الاتحاد الأوروبي على العقوبات الموجّهة ضد الأفراد والكيانات المرتبطة بالانتهاكات أو الجرائم الخطيرة، إضافة إلى القيود الخاصة بالأسلحة والمواد الحساسة أمنياً.
المرحلة الثالثة
مرحلة الرفع مع الإبقاء على أدوات الضغط (من أغسطس حتى ديسمبر) فبعد رفع القسم الأكبر من العقوبات الاقتصادية، اتجهت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نحو «مرحلة تثبيت» تهدف إلى حماية مسار الانتقال السياسي، خصوصاً مع اتساع مشاركة الاستثمارات العربية والخليجية في مشاريع البنية التحتية والطاقة والموانئ. خلال هذه المرحلة، جددت واشنطن تعليق العقوبات الثانوية المتعلقة بقانون قيصر، مع الإبقاء على الاستثناءات التي تمنع التعامل الذي يشمل جهات مرتبطة بإيران أو روسيا أو التنظيمات الإرهابية.
وجرى التأكيد على أن تخفيف العقوبات لا يلغي مسؤولية الحكومة السورية عن الامتثال للمعايير الدولية، وأن العقوبات يمكن أن تعود إذا تعرّض المسار السياسي أو الأمني للانتكاس.
بدوره، استمر الاتحاد الأوروبي في التوسّع في الاستثناءات الإنسانية والاقتصادية، مع الحفاظ على العقوبات الفردية وعلى حظر المواد المرتبطة بالقمع أو التجسس أو الاستخدام العسكري المزدوج، ما يضمن استمرار «خط الدفاع الأمني» الأوروبي حتى في ظل الانفتاح الاقتصادي المتزايد.
ما الذي أُزيل؟
إنهاء العقوبات الأمريكية على سوريا بالكامل (باستثناء قيصر الذي تم تعليقه).
رفع الحظر الأوروبي عن النفط والغاز والطاقة والكهرباء وسلاسل التوريد الخاصة بها.
إعادة السماح للشركات الدولية بالاستثمار والتجارة والخدمات المالية في معظم القطاعات السورية.
إعادة دمج المصارف السورية الرئيسية في النظام المالي الدولي بدرجة كبيرة.
تخفيف القيود على التحويلات، والشحن، والطيران، والتعاملات التجارية.
ما الذي بقي؟
العقوبات الأمريكية والأوروبية على بشار الأسد ودائرته والمتورطين في الانتهاكات الكبرى.
العقوبات على شبكات المخدرات والكبتاغون والجهات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
العقوبات المتعلقة بالتنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها داعش والقاعدة.
حظر الأسلحة والمواد ذات الاستخدام المزدوج.
استمرار سوريا على «القائمة الرمادية» لمجموعة العمل المالي، ما يفرض مزيداً من الحذر على المصارف العالمية.
هذا التفكيك للعقوبات انعكس مباشرة على حركة التجارة والاستثمار. فقد عادت الشركات الدولية والعربي إلى قطاعي الموانئ والطاقة، وبدأت مشاريع إعادة تأهيل البنى التحتية الكبرى تتخذ طابعاً أكثر جدية. كما عاد تسجيل العلامات التجارية وبراءات الاختراع والتعاقدات الدولية إلى نشاطه بعد سنوات من الانقطاع، وتزايدت تعاملات الشركات الخاصة في مجالات الاستشارات الهندسية، والخدمات اللوجستية، والطاقة، والإنشاءات.
