كشف سر داء الفيالقة بعد 30 عاماً من الغموض

بعد أكثر من ثلاثة عقود من البحث العلمي، تمكن علماء جامعة ييل من كشف الغموض الذي دام 30 عاماً حول كيفية عمل داء الفيالقة، وهو أحد أشكال الالتهاب الرئوي الحاد الذي تسببه بكتيريا الليجيونيلا.

ويُعد هذا الاكتشاف العلمي إنجازًا مهمًا في مجال الأحياء الدقيقة وعلوم الأمراض المعدية، وقد يمهد الطريق لتطوير أدوية جديدة لمعالجة عدوى الرئة الخطيرة.

عادةً ما تنتقل عدوى داء الفيالقة عبر استنشاق قطرات ماء صغيرة ملوثة بالبكتيريا، وتتواجد هذه القطرات في بيئات رطبة مثل أنظمة التكييف، أجهزة الترطيب، حمامات السبا، أحواض المياه الساخنة، والصنابير والدشات القديمة.

وعلى الرغم من ندرتها مقارنة بأشكال الالتهاب الرئوي الأخرى، فإن معدلات الإصابة بالشكل الحاد من داء الفيالقة في الولايات المتحدة كانت في ارتفاع مستمر منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وفقًا لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC).

ويصاب حوالي 10,000 شخص سنوياً في الولايات المتحدة، مع تسجيل حالات وفاة في بعض التفشيات، مثل التفشي الذي وقع في صيف 2025 في وسط هارلم بنيويورك وأودى بحياة سبعة أشخاص على الأقل ، وفقا لمجلة "نيوزويك" الأمريكية.

وبدأ الباحثون في جامعة ييل، بقيادة كريج روي، أستاذ علم الأمراض الميكروبية وعلم المناعة، بالبحث منذ أكثر من 30 عامًا لفهم السبب وراء أهمية البروتين DotA في قدرة البكتيريا على إصابة الخلايا البشرية. وقد تبين أن DotA ليس العامل الوحيد، بل جزء من آلة نانوية معقدة تستخدمها الليجيونيلا لنقل بروتينات "مؤثرة" إلى الخلايا المضيفة، لتعديل وظائفها والسيطرة عليها.

ولتحقيق هذا الاكتشاف، اعتمد الباحثون على تقنية التصوير المتقدمة cryo-EM (المجهر الإلكتروني بالتبريد)، التي تسمح بمشاهدة الجزيئات والبروتينات في حالتها الطبيعية ودون الحاجة للتلوين أو التحضير الكيميائي الذي قد يشوه التفاصيل. وبفضل هذه التقنية، تمكن الفريق من التقاط البكتيريا "أثناء الفعل" بدقة ثلاثية الأبعاد، وتحليل أكثر من 76,000 جسيم لفهم البنية الكاملة لهذه الآلة النانوية ووظائفها الحيوية.

وشرحت سميرة حيدري، مؤلفة الدراسة وزميلة ما بعد الدكتوراه، أن قوة المجهر الإلكتروني المبرد كانت أساسية للتلاعب بالخلايا البكتيرية، وإتاحة إمكانية تصوير فيلم ثلاثي الأبعاد عالي الدقة يوضح كيف تتحول "تروس" هذه الآلة من قناة مغلقة إلى قناة مفتوحة، لتتمكن البكتيريا من توصيل بروتيناتها المؤثرة إلى خلايانا. وبهذا أصبح بالإمكان رؤية كل بروتين من بروتينات DotA وغيره من مكونات القناة النانوية، وهو إنجاز علمي غير مسبوق.

وأكد روي أن القدرة على تصور البروتين الفردي الذي بدأ العمل عليه منذ أكثر من ثلاثة عقود تشكل "حلماً أصبح حقيقة"، مشيراً إلى أن هذه النتائج توفر نافذة جديدة لفهم كيفية عمل البكتيريا على مستوى دقيق جدًا، وكيفية تفاعلها مع الخلايا البشرية. كما تفتح النتائج المجال لدراسة أكثر من 300 بروتين متنوع ضمن القناة الميكانيكية للبكتيريا، ما يطرح أسئلة بحثية جديدة حول آليات العدوى والتحكم في قدرة البكتيريا على نشر الجينات المقاومة للمضادات الحيوية.

تعتبر مقاومة المضادات الحيوية إحدى أكبر التحديات الصحية في العالم، حيث يمكن للبكتيريا والفطريات والطفيليات أن تصبح غير مستجيبة للأدوية التقليدية، مما يؤدي إلى تفاقم الأمراض المعدية. وترى منظمة الصحة العالمية أن مقاومة مضادات الميكروبات تشكل "أحد أبرز التهديدات العالمية للصحة العامة والتنمية". لذا، فإن هذا الاكتشاف ليس مهمًا لفهم داء الفيالقة فحسب، بل له أيضًا تداعيات على مكافحة مقاومة الأدوية مستقبليًا.

من الناحية السريرية، فإن فهم الآلية الدقيقة لبكتيريا الليجيونيلا يمكن أن يفتح الباب لتصميم أدوية جديدة تمنع البكتيريا من استخدام هذه القناة النانوية، أو تعطيل بروتينات المؤثر، مما يقلل من شدة العدوى ويمنع تطورها.

ويأمل الباحثون أن تؤدي هذه الدراسات إلى علاجات أكثر فعالية للمرضى المعرضين للخطر، خصوصًا كبار السن والمصابين بأمراض مزمنة، الذين يشكلون الفئة الأكثر عرضة لمضاعفات داء الفيالقة.

ويوضح هذا الاكتشاف كيف يمكن للتقنيات الحديثة مثل cryo-EM أن تحل ألغازاً علمية عميقة لم تستطع الأدوات التقليدية كشفها لسنوات طويلة. كما يبرز الدور الحيوي للبحث العلمي الطويل الأمد والمثابرة في مواجهة الأمراض المعدية المعقدة، ويوفر أملًا جديدًا في مكافحة الالتهابات الرئوية وتحسين صحة الإنسان على مستوى العالم.