أقصوصة الأربعاء .. ليلام

بقلم: عبير أحمد
بقلم: عبير أحمد

كان أطفال الحي يتبادلون الحديث في ما بينهم عن «هالة» ويحاولون تخمين حجم ثروتها، فقد كانت في المُحصّلة، تجني المال كل يوم، وقد كان التصور الطفولي أن حصد شيء ما باستمرار، يرادف الوفرة.

تحمل هالة بضاعتها على ظهرها، وتطرق الأبواب متى ما عنَّ لها ذلك، على يقينٍ بأنها مُنتظَرة ومُرحَب بها في الأوقات كلها. لها بسطةٌ في الرزق (أو هكذا بدا لأطفال الحي) والجسم، تزن ثلاث نساء في الأقل، ولها بشرة سوداء، ورائحةُ البضاعة الجديدة، وتلفُّ حجابها بطريقة مُحكَمة لم تُجلّ شعرةً واحدة في سنيِّها الستين.

بدت هالة لـعُشبة الصغيرة صارمة في كل أمور حياتها، ابتداءً من دفتر الديون، إلى عدم تفاوضها حول أسعارها، اكتشف الأطفال هذا حين غاب حوار التفاوض والمكاسرة، وكانت تؤكد عشبة أنها ستصبح ذات يومٍ «ليلام» مثل هالة، وستجني ثروة كبيرة، ولن تشاركها مع أحد.

تعلمت عشبة مصطلح ليلام من حمد ابن الجيران، الذي تعلمه من أبيه حين حدثه عن الليلام، فكلما يظهر طيف هالة، يردد حمد «ليلام.. ليلام.. ليلام» وهكذا كرَّر أطفال الحي.

لم تكن هالة تبتسم، رغم حماسة الترحيب وعلوّ الأصوات وطرق الأطفال أبواب منازلهم لتبشير أمهاتهم بقدومها، لم تبتسم هالة يوماً قطّ، أو هكذا تتذكر عشبة، إذ بدت تحمل في صُرتها تلك، دكّانها الصغير، حُزناً غير قابل للبيع.

توجس الأطفال من هالة، فقد أوحت لهم صرامتها وتجارتها شبه الصامتة وهيئتها وغياب ابتسامتها، بأنها مشروع خاطفة، وأن مشروعها لم يكن سوى غطاء يخفي مخططاتها لدراسة الضحايا ومنازلهم، وحدها عشبة بددت مزاعمهم، فهالة ليست سوى امرأة تبحث عن رزقها؛ ولو كانت خاطفة لما وثق بها أهل الحي وأدخلوها بيوتهم، ولما انتظرت وقتاً طويلاً لتنفّذ جريمتها.

لم يأخذ الأطفال بكلام عشبة، لكن الأيام أثبتت لهم ذلك، فكفّوا شرّ أفكارهم عنها، واستغرقوا في مؤامرات أخرى.

أما عشبة فلمّا ينقطع انبهارها بهالة، وبثروتها التي تجنيها من تلك الصرة الثقيلة على ظهرها، فعزمت ذات يومٍ على اقتحام بيت هالة، والتوصل إلى خيوط إضافية تعينها على فهم سر هذه المرأة.

لم يكن الدخول عسيراً، الباب موارب - كأبواب الحي كلها - دفعته برفق، لتختلس نظرة على الفناء، لم يكن هناك من فناء، بل أجهزة معطلة بعضها فوق بعض، وصناديق شبه مفتوحة وأكياس قمامة سوداء كبيرة تحمل علباً بلاستيكية، وخشباً من مصادر متفرقة، كانت محاولات كثيرة للعيش.

مشت عشبة بشجاعة دفعها الهدوء المطبق، وعانت من غياب الأرض، فبالكاد وجدت مطرحاً لقدميها. اقتربت من الباب الداخلي، وغلب يأسها أملها بوجود شيء، داهمها خاطر بسوء صنيعتها، فهمَّت بالمغادرة حتى تسرب إليها صوت ما، توقعت أن يصدر أي شيء من هذا البيت، إلا ضحكة! علا صوت الضحكة، فعطَّر الجو، وطار في الآفاق، وملأها. واتقدت عشبة، ووجدت نفسها في حضرة مشهد غرائبي.

هالة في خضم مكالمة هاتفية، تداعب سلك السماعة الطويل، وتتحدث بصوت أنثوي، لا يتوافق أبداً مع هيئتها.

فهمت أن هالة تحادث محبوباً بعيداً وغائباً عنها، لم تحتج الصغيرة إلى التمهل في خطاها، فلا أعتى انفجار يمكنه إيقاظ تلك المرأة من استغراقها.

ولت عشبة هاربة، وعجزت عن بيان ما اختلجها، وفسرته خوفاً. لم تظن أن بمقدور هالة أن تكون بهذه البهجة والرقة، وأن تكون كسائر البشر، كائناً يحب ويشتاق.

بعد سنوات، كبر أطفال الحي، وغاب الحي المتهالك بأمر من البلدية، وتفرقت تلك القصص وأهلها، وبقيت تلك الضحكة في روح عشبة، مثل أثر حجارة لا نهائية، في بركة مُذعنة.

كبرت عشبة، وكبر معها سؤالها المؤجل عن هالة وتلك الضحكة، ترددت في طرحه، خشية أن يتبدد ذاك المشهد القديم.

كأن من شأن أي تفصيل جديد، تشويه تلك الذكرى. تحيرت طويلاً، لكنها في نهاية الأمر سألت أمها: شحالها هالة؟

نظرت الأم ببلادة إلى ابنتها، مستنكرةً الاسم والسؤال، ثم عادت تقلب مقاطع التيك توك، صامتةً لدقيقة، وأخيراً نطقت، بنبرة من ألِف تكرار الحكاية حتى فقدت سحرها: الله يرحمها، سرق شقى عمرها وعرَّس عليها.

جفلت عينا عشبة ورددت: سرق شقى عمرها وعرّس عليها!

وكما لو أن ما تناهى إلى سمعها، كان انفجاراً، أيقظ امرأة، من استغراقها القديم.

بقلم: عبير أحمد