« البيان » تسلط الضوء على قصص قصيرة تخطها أقلام مبدعة
تصاعدت رائحة البن لتتخلل أنفه، ثم -كما يقول- تدلك رأسه. لقد كان يحتاج هذه الرائحة لتخفف عنه وطأة الأرق.
نظر ناحية الشاب الذي جلس بجانبه وهو يحمل حقيبة يد فقط، كان الشاب ينظر لهاتفه باستمرار، كما لو أنه يهرب من اللحظة التي يعيشها الآن.
لم يفهم هوس الشباب بالتحديق في الشاشات طوال اليوم، لكنه كان يعرف أنهم يهربون خوفاً من أنفسهم، خوفاً مما يعيشونه.
ارتشف من قهوته، ثم انتبه للشاب مجدداً، رأى حملاً ثقيلاً على ظهره، ظل يحدق للحظات قبل أن يتنهد.
التقت عيناه بعينَي الشاب، ثم ابتسم وأشاح ببصره بعيداً، لقد كان محقاً، فإن هذا الشاب أيضاً يهرب من آلامه، وها هو يحملها على ظهره ظناً بألا أحد يستطيع رؤيتها.
راح ينظر حوله، ثم انتبه لتلك السيدة التي تدفع عربة طفلها أمامها، كانت سيدة شابة، لكن ظهرها كان متقوساً، وحمل ثقيل يعلو كتفيها. تُرى... أهو بسبب هذا الطفل؟ أم هو غياب الأب؟ أم وطأة الفقر؟
لقد كان حِملهما متشاركاً لأنهما سوياً. لقد تذكر هنا كم أن الهموم تبدو ضئيلة عندما تجد من يتشاركها معك، تماماً كهذين الزوجين.
عاد لينظر مجدداً من حوله بحثاً عن تلك السيدة وطفلها، وجدهما يقفان بانتظار الحافلة، راقب الأم تبتسم أخيراً وهي تحدث طفلها، ثم راقب الحِمل على ظهرها، لقد بدا ظهرها أقل انحناء هذه المرة، بلا شك في أن الطفل كان السبب في ارتياحها قليلاً.
كان صغيراً، لكن يا ترى، أي ثقل يحمله طفل في التاسعة؟ تنهد ثم انتبه بأن حافلته قد وصلت، صعد وجلس على مقعده بجانب النافذة، طوال سنواته الستين التي عاشها بمختلف التجارب، لقد عرف أن لكل من هؤلاء البشر قصته وحِمله الخاص.
لقد كان شاباً طائشاً في صغره، وكان يرى أنه الوحيد التعيس، ولكن مع كل تجربة في حياته، ومع كل شخص جديد يلتقي به لقد تعلم درساً: ألّا يحكم أبداً.
أن تعيش كل يوم بفرصه وإمكاناتك هو نعمة كبيرة، أن تقارن نفسك بكل نسخة سابقة منك هو أفضل بمئات المرات من أن تقارن نفسك بحياة الآخرين ومستوياتهم. نقطة النهاية عند أحدهم قد تكون نقطة البداية عند شخص آخر.
لقد كبر وعرف أن الحياة لا يمكن أن تكون متشابهة للجميع فإن الجمال يكمنُ في الاختلاف. لقد راقب الركاب من حوله، لقد كانت لديه قدرة جاءته متأخراً إذ يستطيع رؤية أحمال الآخرين وآلامهم، لقد كان يجد حمله بسيطاً أمام أولئك الذين فقدوا أحبتهم، بل سخيفاً أمام أولئك الذين شُخصوا بمرض خطير.
أخرج دفتر ملاحظاته من جيبه وقلمه الأزرق، ثم خط في صفحة بيضاء جديدة بضع كلمات.
«ليست الأحمال ما يثقلنا... بل قلوبنا حين تعجز عن أن ترى ما وراءها. علّمني حملي أن أحب، أن أرحم، أن أكون إنساناً، وهذه وحدها خفتي».
