هشاشة صيفية

محمد يوسف زينل
محمد يوسف زينل

« البيان » تسلط الضوء على قصص قصيرة تخطها أقلام مبدعة

لم يعتقد يوماً أن أعصابه الفولاذية ستنهار بمثل هذه السهولة، أخلاقه التي أوهم نفسه بها، خطوطه الحمراء التي وعد بعدم تجاوزها. سقطت مع أول قطرة.

بدأ كل هذا بعد عودته من العمل، نهار صيفي حار جداً، شمس حارقة، سماء خالية من أي حياة. على الأرض لم يكن هنالك إلا ضجيج السيارات، وهي تتسابق في طريق عودتها إلى مساقط رؤوسها.

لم يختلف الداخل عن الخارج كثيراً، في المدخل استقبله تيار هوائي ساخن (اكتشف لاحقاً أنه نسي إحدى نوافذه مفتوحة)، الأرضية أشبه بصفيحة «كريب» ساخنة، والجدران العازلة لم تعد تبث إلا الحرارة.

كان الهواء مشبعاً بكل شيء ما عدا الأكسجين، كل شيء من حوله تغير أو فقد طعمه ولونه، بل تحول إلى أبيض وأسود.

مرت ساعة على الموعد المزعوم، ساعة في الجحيم الأرضي. أحس أنه مخنوق، مرتبك، منهزم، مخدوع.

أمسك هاتفه مجدداً، وهو يقلب في سجل المكالمات الصادرة.

كان هذا اتصاله الثاني عشر، اتصالات لا يتعدى الفاصل الزمني بينها دقيقتين أو ثلاثاً.

تتوالى المحاولات، واللعنات تنسال عبر برج الاتصالات مع كل مرة.

رد يا بن.. رد يا..

ولكن لا جواب

بدا استعادة النظام تلك الكتلة من الأفكار السائلة مستحيلاً، تلك التي لم يحسبها تتفكك في حر الصيف وعرقه.

كان يصر على أسنانه، مقاوماً الغرق في حوض أفكاره الأجوف، بحر من الأفكار المزعجة التي تملأ رأسه حتى خيل له أن المياه باتت تخرج من أذنيه. ابتلت ملابسه تماماً، بدا كأنه يسبح في بحر من اللعنات والآثام الخاصة به.

أما هاتفه وغلافه الزلق الذي كان في زمن ما فاضحاً يشف ما تحته، فاكتسى بالصفار وظهرت خلفه - على استحياء - ملامح تفاحة.

ومع تحوله إلى كائن بغيض بذيء، تحول هاتفه إلى قطعة صابون!

بدأ البث في رأسه، حلقات خاصة من سلسلة الخيانة والخذلان، معدة خصوصاً لهذه المناسبات.

ها هو ذا في المدرسة يفتح حقيبة طعامه، ليكتشف اختفاء وجبته المفضلة «زعتر كرواسون»، ليواجه زقزقات بطنه بأسى وحسرة.

هاتف نوكيا مفقود، وساعة كاسيو مكسورة، ثم - على غير ميعاد - يظهر وجه فتى غريب، إنه دحيم الفتى السمين الذي أصبح صديقه فجأة، واستلف منه ورقة المئة درهم، واختفى - كما ظهر - فجأة.. السارق الملعون.

ليلعن البشر، ويتمنى اندثارهم باحتباس حراري أو بنيزك ساقط. ولو كان يملك حينها حقيبة الرئيس الأمريكي المزعومة، لباشر بإطلاق الصاروخ النووي بلا أدنى تردد.

تشتعل النيران في صدره أكثر وأكثر، ثم واتته فكرة لكم الجدار لعله يشفي غليله.

ولكن عقله - أو شيئاً آخر - قدر أنها معركة خاسرة، فالأضرار ستكون جسيمة، والأمر لا يستحق التصعيد أكثر.

وفي تلك اللحظة بالذات رن جرس المنزل.

أخذ نفساً عميقاً، مسح سريعاً آثار الأنهار الجارية على صلعته، أعاد تنظيم هيئته في المرآة المستطيلة، وختمها برشتين من عطره المفضل كـ (فعل لا إرادي).

ثم أخذ خطوتين أو ثلاثاً حتى بدأ في استعادة توازنه وبخطى ثابتة ذهب ليفتح الباب وبالفعل كان هو.

وبعد محادثة قصيرة حادة مقتضبة خالية من الحشو واللغو، أدخله إلى المنزل، واختفى الرجل بين جنبات المنزل.

عاد مرة أخرى إلى مقعده الرمادي الوثير، في وقت ما كان يهون عليه حر الصيف وبرد الشتاء. الوقت يمضي ببطء، وهو يقلب في القنوات البكماء.

وما هي إلا عشر دقائق أو أقل حتى بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها، توقفت هرمونات الشرور من بث موادها، عادت الدماء إلى مجاريها، تلاشى احمرار وجهه ببطء، أما عيناه المتعبتان، فأعلنتا حاجتهما إلى غفوة طويلة.

رن الهاتف بعدها، هذه المرة بنصف رنة، فتح على إثرها نصف جفن، ثم عاد مجدداً ليستيقظ على رنين متواصل. من أمام الباب، وقف الرجل بانتظاره، وفي يده شيء أسطواني صغير.

اقترب منه، يرفع الرجل يده قليلاً ليريه، ولكن قبل أن يفتح الرجل فمه وضع المئة درهم في يده، ثم ركل الباب خلفه.

حدث كل ذلك بعد أن تعطل (مكثف) مكيف الغرفة!

بقلم/ محمد يوسف زينل