في زمن تتسارع فيه التقنيات الرقمية، وتتطور فيه الآلات الذكية بشكل مذهل، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة لمعالجة البيانات أو تطوير البرمجيات، بل أصبح شريكاً جديداً في عالم الإبداع الفني والأدبي.
فالآلة اليوم قادرة على صياغة نصوص سردية وشعرية، ومحاكاة أساليب أدبية، واستحضار معلومات دقيقة، حتى إنها بدأت تُدخل نفسها في الحوارات الفنية والثقافية، متجاوزة حدود الحسابات والبرمجة التقليدية.
هذا الواقع الجديد، وفق عدد من النقاد، يضع الأدب العربي أمام تحدٍ كبير: كيف يمكن الحفاظ على أصالة الكتابة وهويتها الثقافية، في ظل تزايد الاعتماد على تقنيات قد تغير من شكل الإبداع وطبيعته؟
ويؤكد هؤلاء النقاد أن النقاش يتجاوز مجرد قدرة الآلة على توليد الجمل والكلمات، ليصل إلى جوهر الإبداع ذاته... موضحين أن الإبداع الأدبي ليس مجرد ترتيب كلمات، بل هو تجربة إنسانية كاملة، إحساس بالحياة، رؤية للعالم، وعاطفة متجذرة في تجربة الكاتب الشخصية والاجتماعية.
وانطلاقاً من هذا الرأي، يثير دخول الذكاء الاصطناعي إلى فضاء الكتابة تساؤلات مهمة: هل يمكن للآلة أن تمتلك رؤية حقيقية للعالم؟ هل يمكن أن تحل محل التجربة الإنسانية التي تُغني الأدب بالعمق والروح؟ أم أن دورها سيقتصر على أدوات مساعدة، توسع من خيال الكاتب، وتسرّع من إنتاجه، دون أن تلغي دوره الإبداعي؟.
تقول الكاتبة ضحى محبوب: «الأدب ليس زخرفة لغوية، إنه رؤية وتجربة. والآلة مهما أتقنت اللغة، تظل خارج الحياة التي يصنع منها الكاتب عمله الأدبي».
وتضيف في حديثها لـ«البيان»، أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم في توسيع خيال الكاتب، ويتيح له مسارات جديدة للفكرة، ويساعد في استحضار معلومات دقيقة قد تغني النص. لكن الكاتبة تعود وتؤكد: «الخوارزميات قد تمنح الكاتب احتمالات جديدة، لكنها لا تمنحه إحساسه الخاص، ولا تُشكّل الوعي الذي يتكون عبر العمر كله».
فرص وتحديات
الشاعر حمدي عابدين، يشدد على أن الاعتماد الزائد على النماذج الذكية، قد يؤدي إلى إنتاج نصوص متشابهة، ويُفقد الأدب تنوعه وفرادته. ويوضح أن الكاتب الذي يستخدم الأدوات الحديثة بذكاء، سيجد نفسه أمام فرص أكبر لتطوير مشروعه الأدبي، سواء عبر تسريع عمليات البحث، أو توليد أفكار أولية تساعده على استكمال نصه. بينما قد يواجه من يرفض هذه الأدوات فجوة تقنية مع الزمن، دون أن يعني ذلك تراجع موهبته أو قيمته.
وتعبّر الأدبية سارة السهيل عن رؤيتها بقولها: «اللغة آلة قديمة بيد الشاعر. والذكاء الاصطناعي آلة جديدة. لكن الشعر يظل ملكاً للروح لا للبرمجيات». وتضيف: «إن القارئ الشاب اليوم يبحث عن سرد أكثر حيوية وإيقاع أسرع، والذكاء الاصطناعي قد يساعد الكاتب في تنظيم أفكاره، ومراجعة أعماله، دون المساس بخصوصية صوته الأدبي».
الهوية الثقافية
وفي سياق متصل، يبرز تخوف بعض الأكاديميين من تأثير الأدوات العالمية على الهوية الثقافية، إذ تعتمد بعض النماذج على قواعد بيانات أجنبية، قد لا تعكس الخصوصية العربية. ويؤكدون أن المطلوب ليس رفض التقنية، بل تطوير نماذج تُدرَّب على النصوص العربية، لتحافظ على خصوصية لغتنا ونسيجنا الثقافي.
هذا الوعي بات ضرورة، لضمان أن يظل الأدب العربي ممتداً من جذوره، مهما تعددت الأدوات التي تُسهم في إنتاجه.
يظل الإبداع الإنساني المحرك الأصيل لأي عمل أدبي. فالآلة قد تساعد وتدعم، لكنها لا تملك الموهبة، ولا تنتج التجربة الحية التي تصنع الأدب. لذلك، فمستقبل الكتابة سيُبنى على التكامل الواعي بين الإنسان والتقنية، ليحافظ الكاتب العربي على أصالته وهويته، ويستفيد في الوقت نفسه من أدوات العصر، دون أن يتخلى عن دوره في تشكيل الوجدان وإبداع المستقبل.


