أصل الحكاية

حُنين لم يكن إسكافياً

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أخيراً واتتني الشجاعة، وسأروي للعالم الحكاية من جانبي أنا. سأخط على هذه الصفحات تفاصيل ما حدث. ليس كما سمعتموه، بل كما حصل معي بالفعل. لا بد أنكم تعرفونني، حتى وإن لم يسبق لكم السماع باسمي قبل اليوم. هو ليس مهماً على أي حال، لكني على يقين بأن جلكم قد بلغه ما كان من أمري.

وربما تكونون أنتم أيضاً قد ساهمتم بتشعب مظلمتي - عن غير قصد طبعاً- عبر تداولكم لذلك المثل المجحف الذي يتناقله سائر العرب سخرية مني، وتهكماً بي، كوني ضحية جريمة اتفق بنو جلدتي على تبريرها واستحقار شأنها، وأخذوها مأخذ الدعابة فلم يعد أحدهم يميز الخبيث من الطيب، أو الخطأ من الصواب. ولم يكتفوا بالتقاعص عن دورهم في الأخذ على يد الجاني، بل تمادوا في التندر على المجني عليه الذي هو أنا.

قصتي أيها الأحبة بدأت في يوم مشؤوم غادرت فيه مضارب قبيلتي في البادية، ويممت شطرمدينة الحيرة قاصداً قصر أبي قابوس النعمان بن المنذر، حيث نظم هذا الملك المعطاء مهرجاناً أدبياً يدعى «المؤتمر» يجتمع فيه بكبار شعراء العرب فيسمع منهم أحدث وأجمل ما نظموا، ويعرض قصائدهم على الثقات من شعرائه المقربين ليستمع إلى نقدهم و تقييمهم لها.

وقد يجزل العطايا للشعراء حتى يكاد الشاعر يستغني عن الكدح طيلة حياته بقصيدة واحدة يطرب لها الملك. والعز كل العز للشاعر الذي تحظى قصيدته على أمرٍ ملكيٍ بالتدوين، حيث خصص الملك في قصره زاوية للناسخين الذين عكفوا على نسخ أشهر وأجمل قصائد العرب تحت إشرافه الخاص.

وكنت قد نظمت قصيدة في أبي قابوس امتدحتها زوجتي كثيراً، وأعجبت بها أيما إعجاب، فأقسمَت علي إلا أن أقصد قصر الخورنق فأعد قصيدتي على النعمان. ذلك أنها كانت تأمل في مكافأةٍ ينعم علي بها الملك تنتشلنا وأولادنا السبعة من ضنك العيش إلى بحبوحته. أما أنا فكنت أمنّي النفس بأن يُكتب لقصيدتي الخلود مع روائع أشعار العرب فلا يموتُ ذكري ما قامت للعرب قائمة.

ركبت ناقتي الشولاء وسلكت دربي وليس في خرجي سوى بضع تمرات وقربة ماء. وعلى ثغري تتراقص أغنية أحدو بها لأبدد وحشة الطريق. تمايلت الشولاء على وقع أحلامي الكبيرة، إذ وعدتها بأنها لن تسلك هذا الدرب وحيدة بعد اليوم، بل ستعود إليه بعد أيام برفقة قافلة من الإبل والخيول محملة بأنواع الأطايب من البضائع.

انتصف النهار وتلاشى الظل مع وصولي إلى دومة الجندل، وكنت قد عزمت أمري على التوقف في سوقهم الشهير الذي يقصده أكبر التجار، العرب منهم والفرس، لتبادل البضائع والقصائد والخطب.

ترجلت عن ناقتي ومضيت أتفقد البضائع المعروضة عند هذا، أو أستمع إلى خطبة يلقيها ذاك، وفيما أنا كذلك إذ برجل يقترب من ناقتي، يتفحصها بإعجاب ظاهر، ثم يلتفت إلي فيلقي التحية.

ظننته في باديء الأمر تاجر إبل، لكنه نفى ذلك عنه وكأن تجارة الإبل نقيصة من النقائص. وادعى أنه شاعر معروف يقال له حنين بن عدي، غير أني أصدقته القول بأني لم أسمع عنه قبلها. تجاذبنا أطراف الحديث فسألني عن سبب زيارتي للحيرة، فأخبرته بأني شاعر جئت ألقي قصيدة بين يدي النعمان. ودَّ حنين لو أُسمعه قصيدتي لكني أبيت كونها قصيدة طويلة لم أشأ قراءتها في عجالة.

لكن إصراره جعلني أسمعه مطلع القصيدة الذي يقول:

إذا أسست قوماً فاجعل الجــود بينهم وبينك تامن كل ما يُتَخوف

فإن كُشِفت عند الملمات عورة كفاك لباس الجود ما يتكشـــــف

ما إن سمع حنين مطلع قصيدتي حتى اكفهر وجهه ومط شفتيه قائلاً:

لم تأت بجديد يا أخ العرب وأين هذا من قصائد النابغة الذبياني أو الأعشى أو لبيد بن ربيعة، ولولا أني توسمت فيك الخير لما كنت لك ناصحاً، فلقد عُرف عن النعمان اتخاذه يوم بؤس ويوم نعيم، ولقد أتيت الرجل والله يوم بؤسه، وما أراك إلا هالكاً إذا أنت عزمت على المضي في هذا الأمر.

لم أكذِّب الرجل، فقد تناهى إلى سمعي أخبار هلاك شعراء قصدوه مثلي يوم نحسه. أسقط في يدي لدى سماعي الخبر، وجعلت أندب حظي في سري. فلما تبين له ما أضمرت من خيبة وكآبة. جعل يساومني على قصيدتي معللاً الأمر بكرهه عودتي إلى دياري خالي الوفاض. تذكرت حال أهلي الذين خلفتهم في فاقة وسألته على مضض عن المقابل، فإذا به يشير إلى خفين مطرزين كان ينتعلهما.

وقد كبر مقتاً عندي أن أستبدل قصيدتي التي استلهمتها بجلاء قريحتي الشعرية بخفين حقيرين مهما غلا ثمنهما أو حسن منظرهما.

لم يكن من السهل مجاراة حنين الذي أخذ يسوق المدائح في جمال ومتانة وحسن صنع خفيه، فإذا أتيته بسبب أعتذر به عن قبول الصفقة أتاني بعشرة أسباب لقبولها، وما زال يساومني فأصده حتى أدركني وقت العودة ولم أكن أرغب في أن يداهمني الليل ولما أصل لدياري بعد.

شق علي أن أترك حنين خائب الرجاء لكني حسمت أمري فودعته وامتطيت الشولاء قاصداً دياري على نفس الطريق الذي سلكته مسبقاً. إنما أين حالي الآن من حالي حينما فارقت عشيرتي في الصباح، لقد خبا الأمل وكبت الأحلام وضمر في القلب الفرح. وحل محل الحداء صمت لا يبدده سوى طقطقة تمرة ألوكها بتؤدة.

كنت منشغلاً بصخب أفكاري عن معاينة الطريق وبدا لي بعد هنيهة ما يشبه خف حنين معلقاً في جذع شجرة. لم أوقف ناقتي، وغذذت المسير غير أني لويت عنقي للتأكد مما رأيت، ما صدَّق ظني بأن ما شاهدته كان خفاً وحيداً معلقاً في جذع شجرة.

وعلى الرغم من ذلك فلم أفكر في العودة من أجله، وقلت في نفسي ما حاجتي بخف وحيد! هذا عدا أنني في سباق مع الشمس للوصول إلى دياري قبل المغيب. أوشكت على نسيان ما رأيت لولا أن تفاجأت برؤية الخف الثاني ملقى على قارعة الطريق على مسافة ليست بالبعيدة من موضع الخف الأول. وهذه المرة ترجلت عن ناقتي وقلّبت الخف بين يدي فراعني الشبه الذي كان بينه وبين خفي حنين.

حدثتني نفسي بالرجوع لتقصي الخف الأول، فوجدت نفسي أربط الناقة إلى شجرة قريبة وأنكص إلى المكان الذي تراءى لي فيه الخف الأول. وأتيت الشجرة فوجدت الخف لا زال معلقاً بها، فحملته وهممت بالعودة إلى ناقتي وقد انفرجت أساريري لهذا الفوز الذي أدركته دون مقابل، لكن ما إن اقتربت من الموضع الذي ربطت فيه الشولاء حتى انفطر قلبي، فقد اختفت الشولاء بلا أثر، مضيت أبحث عنها لكن الطريق كانت متشعبة لأكثر من درب، ولم أعرف أي درب سلك سارقها وقد دكت الرامسة كل أثرٍ لهما.

أمعنت النظر في الخفين اللذين أحملهما بين يداي، ورويداً رويداً انجلت غمامة المفاجأة، وأدركت أنني خُدعت على يد ذلك السارق المحتال المدعو حنين.

تفضل الله علي بقافلة حملتني بعدها بليلة إلى دياري، أشعث أغبر، لا أكاد أرفع بصري جراء الخزي الذي لحق بي، وإذا بقومي يهرعون لاستقبالي على مشارف الديار ظناً منهم أن تلك القافلة هي عطية النعمان لي، لكنني فجعتهم بخفين أشهرتهما في وجوههم قائلاً:

عدت بخفي حنين...

وكنت قد نويت ألا أحدث أحداً بتفاصيل ما جرى كي أستر مصابي، لكن ما هي إلا بضعة أيام حتى طارت حكايتي مع حنين بين قبائل العرب، الذين اعتمدوا نسخة حنين من الحكاية، وأصبح حنين مثالاً للدهاء والطرافة، بينما شاعت مقولتي لتضرب مثلاً لكل فاشل وعديم جدوى.

قاتل الله حنين! قلب موازين الحق، واستمرأ الخداع، وحرمني من البوح بملكيتي للقصيدة حين أعلن متفاخراً بأن ضحيته هو ذات الأعرابي الذي نظم البيتين الشهيرين في مدح النعمان بن المنذر، البيتين اللذين لما سمعهما النعمان قال:

والله لو أتمها لأمرت له بناقة عن كل حرف!

 

 

Email