هل أخفى أهدافه وتعصبه في لغته الشاعرية ؟

رحلات الإنجليزي داوتي العلمية لجزيرة العرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

وضع الإنجليزي تشارلز داوتي في عام 1888، كتابه الضخم «رحلات داوتي إلى جزيرة العرب»، بلغة غاية في الجمال والروعة، وهو المعروف بأنه شاعر وكاتب ومغامر ورحال.. تلقى تعليماً جيداً منذ صغره وحتى تخرجه، لكن هناك ما صدَّ الناس عن هذا الكتاب شديد الضخامة، فلم يقرأه أحد، فهو يحتوي على 600 ألف كلمة، وهذا يعادل في يومنا هذا 5 كتب ضخمة، يمر الوقت ويكتشف الرحّالة الإنجليزي توماس إدوارد لورنس الشهير بـ«لورنس العرب» مجلد رحلات داوتي، ليصفه بـ«أعظم كتب الرحلات الإنجليزية»، لما فيه من لغة عالية الجودة، وتفاصيل نادرة، ناصحاً بإعادة المحتوى بعد اختصاره، ليخرج الكتاب عام 1921، بحلة جديدة.

بعد أن كان المجلدان الكبيران متعذرين على القراءة، للكلفة العالية، وللأسلوب الشعري الجميل الذي عدّه البعض غريباً فيما يخص أسلوب كتابة الرحلات، وبعد أن أضعف عمله الطويل هِمّة القراء، حتى النخب منهم عن إكماله، صدر الكتاب مختصراً وبسعر أقل في مجلد واحد يحتوي على 130 ألف كلمة، ليقدر النقاد والقراء الكتاب، وينال المديح، لما لسفره من طموح وشوق للمعرفة وهو يجوب صحارى العرب، مع الأسلوب الفخم والمثير للدهشة بشكل مستمر مع المنعطفات اللفظية والإبداع الفردي في نصوصه.

الدفاع عن اللغة

من المعروف عن داوتي أنه شاعر ملحمي، اشتهر بدفاعه المستميت عن لغته الإنجليزية، ليقدم في مجمل أعماله تجربته اللغوية المدهشة والفخمة، حتى كاد يكون أسلوبه مغناه، خاصة في ملحمته الوطنية التي وضعها مشروعاً ثابتاً، ونوعاً من المسؤولية لمواصلة التراث، مقاوماً انحطاط اللغة الإنجليزية مع توسع الاستعمار البريطاني.

تاجر دمشقي

اهتمام داوتي الشديد بلغته أدى به إلى الترحال إلى خارج بلاده، بهدف الدراسة والسفر عبر أوروبا إلى سوريا وفلسطين، فأغراه الحج في مكة، حتى دخل جزيرة العرب بهيئة تاجر دمشقي، ليصف كل البلاد التي زارها هناك بأسلوب إبداعي باهر، ما دعا عمداء «كامبردج» فيما بعدُ، والمراجعين اللغويين ودور النشر والأضواء الأدبية إجمالاً، إلى رفض نشر كتابه إن لم يكن هناك طلب لإعادة كتابته كاملاً بالأسلوب الحديث واللغة المعاصرة.

بعد هذا التمهيد البسيط نقرأ بدورنا كتابه «رحلات داوتي» المترجم إلى اللغة العربية، لنعرف ماذا كتب عن جزيرة العرب منذ أن التحق بقافلة الحجيج من أطراف سوريا، عابراً أشهر مناطق ومدن المملكة العربية السعودية، خاصة مدائن صالح بمنطقة العلا أو «الحجر»، شمال المدينة المنورة، ليمضي داوتي بلغته الجميلة وهو يصف الدمشقيين مع انطلاق الحج العظيم، والمشاهد من الانشغالات حتى الوصول إليها.

لغة أدبية

يكتب داوتي: «في جو دافئ وضبابي أقبلنا نسير فوق سهل الرمل الطفالي..»، هذا التمهيد الأدبي كما ورد في كتابه يصف تلك الرحلة المتقدمة، جعله يصف مع بجمال لغته المكان بما فيه من خصوصية عالية، ومعلومات مزدحمة ومهمة طوال رحلته، وعاب وصفه الأخاذ للناس أنه كتب عنهم باستهجان، فقال إن مرافقيه في الطريق إلى الحج عديمو لباقة، وفي موضع آخر وصف رجلاً بـ«الأسود»، وتحدث متعجباً من أن الحجاج يعيشون في كل خطوة من خطواتهم إلى مكة سكينة القلب والإيمان، مع أوصاف سلبية تجاه بعض سلوكياتهم.

ويمضي بلغته اللافتة في وصف اندفاع الحجاج بصخب، فيصفهم بأنهم قنوعون وليس لديهم أي دافع للمغامرة. ويصف فارساً بأنه «كهل شرس ومريض»، كما لم يكن من دواعي الأدب ولا من أصول كتابات أدب الرحلات أن يصف فارس نفسه بـ«العفريت»، وأن صوته كصوت الغول، وكان من الممكن أن يكتفي بوصف قروحه وكبر سنه.

تعبير كاشف

من يقرأ داوتي يستشعر وهو يجري بين سطوره الفاتنة تعصبه الديني واللغوي والاجتماعي، لذا يهمني أن أشير هنا إلى أنه مهما كانت اللغة عالية الشعرية، فإنها لا تخفي صفات كاتبها ومؤلفها، وما يحمله من تعصب وتعالٍ وعنصرية، فالتعبير لفظياً أو مجازياً يعكس الأحداث النفسية والفكرية للفرد.

وشأن الكثير من الكُتاب الذين يمتازون بصفات شخصية مختلفة عما يمارسونه من تعبير، فإنه لا يصل إلى قلب القارئ، فكل صفاته السلوكية والفكرية من دون أن يبوح بها تدخل من روحه إلى روح حبره ومفرداته التي مهما كانت جميلة، فإنها حتماً كاشفة، وإن ابتعدنا عن الأدب فما يصيبه المجتهدون جداً من غير موهبة عاطفية إنسانية أو قبول إنساني للآخر، لن يظفر بالجمال ولن يرتقي إلى أي إنسان.

الطبيعة والإنسان

نعود لداوتي، ونشهد امتداد لغته الراقية وهو يصف ضوء النجوم الجليل الصافي الذي تشع فيه حزمة درب التبّانة بصفاء عجيب، ويتحدث عن ربّات البيوت السعيدات بحلول ضوء النهار الفارغ، وعن كسلهن وصمتهن في رزانة مبتئسة مع رجالهن المتعبين دوماً، باضطجاعهم الدائم على مرافقهم، وهي وضعية عربية مشهورة.

مروراً بتيماء، وهو بوصفه شاعراً ممتلئاً بالحياة وبقدراته كونه أديباً، بدلاً من أن يسأل أسئلة وجودية ومصيرية في تلك الأمكنة بوصفها تخيلية بالنسبة له فيها الكثير من الرموز التراثية والدينية، يعود للحديث بسلبية عن العرب ويصفهم بـ«الكسالى الذين لا يعملون بل لا يحفرون حتى آبارهم، وكل اعتمادهم على ما لديهم من آبار قديمة فقط».

تناقضات

وبلا شك نلاحظ هذا التناقض بوضوح حين يصف هؤلاء المعدمون مدينتهم تيماء بأنها أرض ندية، وأن أهلها مزارعون مهرة، متجلياً في أسلوبه عن ذلك المنظر الأخضر لتيماء وكيف كان بهيجاً، قد ظفرت أرضها بمياه جارية وسهول مكشوفة.. ويكرس نفسه في رحلته متحدثاً عن الحياة البدوية ومراعي الربيع والمرأة والأسرة واجتماع القهوة والجوالين وأيام الصيف في القفر، وتلك المخلوقات البرية القافزة، ماضياً إلى غارة الجمال وتل البركان «الحرة»، حتى الوصول إلى حائل وخيبر، ومجيئه إلى مكة مع القافلة المُحمّلة بالسمن، التي أخذته في النهاية إلى الطائف، ليسافر داوتي بحراسة 3 رجال مسلحين إلى جدة، منهياً تجوالاته العربية الصحراوية، وهو ما زال يتحدث عن الناس الجاهلين وكيف كان من الممكن أن تتم معاملته لولا توفير الحراسة التي وفرت له من قبل (شريف مكة)، مبرراً أنه فعل ذلك كي لا يخلق لنفسه أي مشكلات مع الحكومات الأجنبية.

أخيراً

يلاحظ المتتبع لسيرة داوتي في رحلته لجزيرة العرب، ومن يقرأ كتابه، حضوره الذي من الممكن تسميته بالنرجسي الشاق، تاركاً لأسلوبه الشعري مهمة استعادة المكان بإيقاع أفكاره السلبية عن العرب التي لُقنت له ربما منذ طفولته، وهذا من دون أن ننكر كتاباته العديدة في وصف حياة البدو وما يكابدونه من قسوة الطبيعة الصحراوية وكرمهم وعاداتهم، لكنه يعود لهم كل حين بلغته المهذبة ينعتهم بصفات تعمها رأيه أكثر من أي شيء آخر.

حكاياته مع القهوة

أثناء جلوسه في منطقة وعلى ارتفاع 600 قدم فوق تيماء، انتظر شرب القهوة التي يصنعها مقدم القهوة بنفسه، حيث يقوم بتحميص القهوة وطحنها وغليها، ليقدم المزيج البهيج بيده، وهنا يبدأ دواتي بالانزعاج، لأنه قدم له فنجاناً واحداً وليس فنجانين أو ثلاثة كالبقية، ليبرر ذلك بأنه فعل السلطة الذي يتمحور هنا بدافع الشعور بالخزي «لكونه غير مسلم»، كما ذكر.

لم يصمت داوتي، وهتف: «القهوة قليلة، فهل هذه عادة الناس العوجاء، في أن يجلس الضيف بينكم وأنتم تشربون جميعاً، وفنجان الضيف فارغ»، حينها أتى مقدم القهوة ليسكب له القهوة على مضض، وهو يتمتم شيئاً بين أسنانه، متضايقاً من أسلوب داوتي.

في يوم آخر وذات مساء حائلي أضرمت النار للقهوة، وقرر داوتي أن يتدفأ عند الموقد المشتعل، لكنّ مقدماً آخر للقهوة والمشهور بمزاجه الصعب، عنف داوتي كي يبتعد ويترك النار للضيوف الذين سيصلون، ولم يصمت وهو يأمره بالعودة والرحيل، ورغم شرح داوتي له بأن جميعهم ضيوف الأمير فإلى أين يذهب، لكن مقدم القهوة كان يصرّ على أن يسمعه إلى جهنم.

أتى الأمير ليوبخ مقدم القهوة فيما بعد، إلا أن داوتي غادر المكان رغم توسلاتهم، كاتباً ومعلقاً: «ضيوف الأمير ليسوا آمنين من الإهانة». ويبقى مقدم القهوة مع داوتي في تنقلاته عبر الصحراء يعامله أسوأ معاملة.

اهتماماته والمخطوطة «اللحيانية»

لا أحد ينكر أن كتاب رحلات داوتي شهد له بالوصول إلى مدائن صالح الواقعة شمال المدينة المنورة، التي لم يصل إليها قبله بقرن الرحّالة والمؤرخ السويسري يوهان بوركهارت، وكذلك المستشرق الإنجليزي رتشارد برتون قبله بنصف قرن الذي لم ينجح في إدراك المكان، لينجح داوتي في ذلك عام 1876، واستطاع بالتالي أن يتجول في هذه المنطقة، مستنسخاً الكتابات والرسوم المنقوشة للحضارة النبطية في واجهات المقابر، ويقوم بتأملها ودراستها، خاصةً أنها العاصمة الأولى للأنباط، وقبل أن تتحول عاصمتها إلى البتراء. كما زار جبل أثلب شمال شرق مدائن صالح، وأثلب بأحجارها الرملية كتبت عليها كتابات تعود إلى القرن 3 ق.م، حتى أننا نستطيع أن نطلق عليها أنها المخطوطة «اللحيانية» على قمة جبل أثلب.

رغبة الصعود إلى تل بركاني

أثناء رحلة داوتي بغرب العلا، المعروفة اليوم بحرة «عويرض» أو «المواهيب»، رأى الجبل البركاني ورغب بصعوده، وبرغبة شديدة جداً لصعود هذا «عناز» العلو البركاني الكبير، للنظر من الأعلى فوق الريف الحممي البركاني، لكن كما أتى في أسفاره لم يدعه مرافقه، ليتحدث عن الأعراب بأنهم بلا تراث متناقل عما يجري حولهم، خاصةً فيما يتعلق بالتربة والمعادن الملتهبة فيها بين جبالهم المشتعلة، إذ كتب الكثير عن البركان وحممه الخبيثة مع شرح علمي يدل على اطلاعه واتساع معرفته، ويذكر الخبراء اليوم أن السعودية فيها 2000 بركان خامد، وفي المنطقة التي عبرها داوتي وحدها نحو 400 بركان.

رحلات قائمة على شغف ودراسة

تعلم الرحّالة تشارلز داوتي الجيولوجيا في جامعة «كامبردج» ما ساعده وهيأه للكتابة عن جيولوجية الأرض العربية بسهولة بعد قراءة صحاريها، ليصبح كتابه مرجعاً للبعض، بعد أن سَخَّرَ علمه للمكان الرملي الجديد عليه، إضافةً إلى اهتمامه بالآثار والنقوش وذهابه إلى «مدائن صالح» التي تمتاز بواجهات صخرية جبلية منحوتة تأخذ الناظر إلى شهقة لا يمكن مقاومتها، وذهابه إلى منطقة اللحيانيين المنسية حينها، الذين يرى البعض أنهم فرع من «ثمود»، كما قام في شبابه قبل رحلته لجزيرة العرب برحلة استكشافية للمناطق الجليدية في إسكندنافيا، ما يدل على اهتماماته العلمية، وإصراره على وجوب تقديم هذه الرحلات القصصية الاستكشافية للقارئ.

1888

من الصدف أن يصدر كتاب «رحلات داوتي إلى جزيرة العرب» في هذا العام، ويولد توماس لورنس، المشهور بـ «لورنس العرب» في العام ذاته، وهو الذي أوصى باختصار رحلات داوتي، وتقديمها للجمهور.

1906

أصدر الشاعر تشارلز داوتي في هذا العام كتابه الأدبي «الفجر البريطاني»، الذي يتحدث فيه عن معركة عظمى هزمت الأمة الإيطالية، متخيلاً العواصف التي تُقذف من السماء، والحاجة إلى رؤية واحدة.

1912

نال داوتي جائزة تقدير من الجمعية الجغرافية الملكية في هذا العام عن أسفاره وكتاباته، وهي جمعية علمية شهيرة في لندن، تهتم بالمستكشفين والدراسات الجغرافية، تعد مركزاً رائداً للجغرافيين والرحّالة.

اقرأ أيضاً:

في معنى العبقرية.. لغز الصانع أم الفكرة الإبداعية؟

تاريخ القهوة.. شرابٌ مغليّ من تراث العرب القديم إلى العالم

طه حسين في نقده لابن خلدون: «المقدمة» ليست عملاً عبقرياً

Email