«مانيتون» مؤرخٌ بلا تاريخ.. وثّق أحداث مصر القديمة وكتب عن الخلق والتكوين

ت + ت - الحجم الطبيعي

مانيتون.. هكذا اسمه، ولا نعلم كيف كان يُنطق في عصره، هذا المؤرخ المنتمي للمنطقة الغربية بمصر، وبالتحديد من بلدته «سَمَنُّود» والمعروف في عهده عهد الفراعنة باسم «سبننوت»، ترك لنا مرجعاً مهماً بعد أن عاش في عصر البطالمة، وتقريباً في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، نقول: «تقريباً»؛ لأنه لا دليل مكتوباً على سنة ولادته أو وفاته رغم توثيقه لتاريخ مصر ومتونها المقدسة.

المصري الأصيل

مانيتون، المصري الأصيل، كانت لغته الأم مصرية، وبالتالي فإن الموضوعات التي من المفترض أن يَكتبَ عنها تتعامل مع الأمور المصرية، لكنه كتب أيضاً باللغة اليونانية؛ ففي عصره كانت مصر تحت حكم اليونان، إضافة إلى أن هناك أعمالاً أدبية نسبت إليه، مع بعض الأطروحات في الفيزياء.

اليوم نقرأ مانيتون بوصفه شخصية تاريخية مهمة، فما يهمنا هو الحديث عن أهم أعماله الأدبية والتاريخية، لا ما نُسب إليه. ولنقف عند ما كتب من أعمال، نحسب عمره الذي قضاه من أجل تحديده، فما كتب وترك كان في بدايات عصر البطالمة، لكننا نضيع حينما نعلم بأن مانيتون لم يُذكر له اسم في ذلك الوقت، وبالتالي نمضي به إلى القرن الأول قبل الميلاد، حتى أصبحت لدينا فجوة كبيرة في عمره الذي بلغ ثلاثة قرون، وهكذا نتيه في حساب سنواته التي عاشها، لِكون سيرته كلها موجودة في كتابه الذي ضاع في حريق مكتبة الإسكندرية، حين امتد اللهب من سفن بطليموس شقيق الملكة كليوباترا، لتنتشر النيران من الميناء إلى المكتبة المطلة على البحر.

كاهن وكاتب وأديب

يبقى مانيتون السمنودي كاهناً وكاتباً وأديباً، له العديد من الأعمال، أهمها في نظر الباحثين وعلماء المصريات مؤلَّفه المنظم جداً «المصريات» أو كما أطلق عليه «أجيبتياكا» والذي ذكر فيه ثلاثين أسرة مصرية ملكية فرعونية حكمت مصر وبالترتيب الزمني مع الأسماء والأحداث والتفاصيل الدينية والاجتماعية، ليتخذ الدارسون هذا الكتاب مرجعاً لهم، بل إنهم فضلوه على كتاب المؤرخ بطليموس الذي تم اكتشاف الكثير من الأخطاء لديه في تفاصيل التاريخ المصري.

أسفار مصرية

والكتاب الآخر بعنوان «الجباتا» أسفار التكوين المصرية، لنلاحظ أن لمانيتون السمنودي فرادة أدبية خاصة في كتابه هذا، إذ جعل من تاريخ مصر زاخراً بالنصوص والأسرار المتجلية تباعاً، لذا يعنينا هنا شرح هذا الكتاب بعد أن تمت ترجمته إلى لغات عدة، لنكتشف أن فيه ستة عشر سفراً تناقلها المصريون عما يخص نشأتهم وتكوينهم زمناً طويلاً، حتى دوّنها وأرّخَها مانيتون بأسلوبه الجميل والحيّ لتبقى.

رسالة من «رع»

وحسب ما يقول مانيتون في مقدمته الدينية، ولأنه كاهن وفي مكانة كهنوتية، فإن كتابته للمصريات كانت بطلب من الإله «رع» الذي زعم أنه أتاه في الرؤيا بعد أن أتى نحوه وهو يركب ذلك الحصان بأجنحته الذهبية، ليبدأ بالكتابة، وقد كتب طويلاً حتى إنه لم ينتهِ منه بالكامل، علماً بأنه يحوي على الكثير من البرديات وهذا يعني عدة مجلدات. ومن الضروري هنا ذكر ما ورد في سفر مانيتون عن انبثاق الآلهة والعالم في إصحاحه الأول، حيث يذكر كيف كان تكوين العالم والخلق والناس.

" تشو وتفنوت"

ويتابع مانيتون كتابته الأدبية في سرده قصة العالم، حسب الاعتقاد المصري القديم، فيقول: «لم يكن إلا ماء وضباب، ولم تكن الحياة، ولم تكن النباتات.. طبقتان متلاصقتان من المياه، بينهما فاصل فضي من النور، أسفله من المياه الذي هو «نون» المحيط الأزلي.. مياه وظلمة؛ فالشمس لم تكن قد تكونت بعد، وعلى سطح المحيط الأزلي «نون» طفت بيضة ذهبية في حجم ألف بيضة من بيض النعام، ثم حدث انفجار هزّ الكون كله، وانفجرت معه تلك البيضة التي طفت على سطح نون، وخرج «أتوم» من تلك البيضة، ليدفع بالطبقة العليا إلى العلا، فارتفعت، وانفتقت عن الطبقة السفلى التي هي البحار.

لكن الظلمة كانت لا تزال مسيطرة، حتى عطس أتوم يوماً «تشو»، فظهر «تشو رب الفضاء»، ثم تَفَلَ أتوم، أي بصق، فكانت «تفنوت» ربة الندى. ظل أتوم في الظلمة مراقباً لـ «تشو» و«تفنوت»، فقرر تزويجهما، فحملت تفنوت لا تسعة أشهر بل ألف عام حتى أنجبت ابنتها «نوت» لتصبح سيدة السماء، وابنها «جب» أصبح جسد الأرض.

وتتابع القصة لنجد أنه أعجب أتوم بقدرته على التزويج، حتى أمر أتوم المتزوجين بأن ينسلوا، وأمر نوت سيدة السماء أن ترفع سماءها بعيداً عن سطح النون، لتتضح زرقتها بعد قتامتها، حيث لم يكن ليل ولا نهار، فاستجابت نوت لكلمات أتوم، حينها تجلت المصابيح في الظلمة وأصبح النور والنهار، فكان الصباح وكان المساء، وخرج رع وقال: أنا (رع)، صارت لي الكلمة، وسحبها من أتوم، ومنذ ذلك الوقت صارت الكلمة لرع ليتوارى أتوم.

وهكذا يمضي مانيتون، ومن خلال الإصحاح وأسفاره، من سفر المهد، إلى سفر التثنية، إلى الاستئناس والتدجين، وسفر المسوخ وشياطين الظلام، إلى سفر القمح والكشري، والمتحدون بالقلب واللسان، أي «جذور الوحدة المصرية»..وغيرها. وتبقى كلها أسفار أنصح القارئ بقراءتها لأنها تحمل الكثير من التشويق وما يحمل من التبصر أثناء المطالعة، ليتقصى القارئ الأمر ويحقق بنفسه، خاصة كتابه «الجبتانا» أسفار التكوين المصرية لمانيتون السَمنُّودي.

أنا مانيتون

في كتاب "الجبتانا.. أسفار التكوين المصرية"، يبدأ مانيتون في مقدمته، بالحديث عن نفسه والتعريف بأصله كما يلي:

«أنا مانيتون السمنودي ولا أعرف عن طفولتي سوى ما سمعته من معلمي وأبي الروحي كاهن معبد مدينة منديس، الذي قصَّ عليّ قصة طفولتي، فقال: سلمك لي فلاح من البحيرات الشمالية وأنت في الخامسة من عمرك، وكانت تبدو عليك ملامح الذكاء والنجابة، ولما سألوا الفلاح من أكون، قالوا بأني ابن الإله حورس الذي زاره وسلمني له وأوصاه برعايتي. منذ تلك الحكاية أصبحتُّ ابناً لمعلمي الذي علمني القراءة والكتابة بعدة لغات، كما علمني الطبابة والسحر والكهانة».

يسترسل مانيتون عن نفسه في مقدمة كتابه، ليكمل:

«ولدتُ مختوناً وعشتُّ في معبد سمنود ذي الأسوار السبعة، وتعلّمت وعلّمت، وعرفت أسماء جميع الآلهة، وقرأت كافة الألواح المرسلة من الآلهة، حتى أصبحت كاهناً وأنا في الثامنة عشرة من عمري، كما أنني لم أذق في حياتي سمكاً أو لحم خنزير، وحياتي التي عشتها في زمن الإسكندر الأكبر وزمن خلفائه من المقدونيين (البطالمة) كان زمناً آمناً لي، خاصة أنه تهيأ لي أن أتعلم في معبد الإسكندرية وجامعتها ومكتبتها...».

ويعلق مانيتون: «في النهاية وبعد أن أتقنتُ حينها كل الخطوط المصرية، وكتبتُ بها، مع الإغريقية والفينيقية والعبرية والآرامية والسريانية، وبعد أن زرت معابدهم جميعاً، واطلعت على ألواح الشعوب وما تركوه وكتبوه.. حينها أمرني الملوك البطالمة بأن أكتب تلخيصاً كاملاً لتاريخ مصر وآلهتها وأسرها منذ (عحا) المحارب الملقب بـ(نعرمر)، إلى وصول الإسكندر».

من كتاب «الجبتانا» أسفار التكوين المصرية

سفر «رؤيا مانيتون السمنُّودي» الإصحاح الأول.

التعبير الأدبي عن الطبيعة في النصوص القديمة

ونحن نقرأ في الإصحاح الثالث من سفر «المسوخ وشياطين الظلام» نجد كمّاً من الجُمل اللافتة في لحنها وذرابتها في التعبير، متخيلين كيف هي جميلة شخصية مانيتون وهو يعبر عن مفاهيم ومتون بأسلوب أدبي رشيق وملحن، ليرتقي بالنص بغية التبتل لترديده على الدوام، أو لتبدو كرواية يرويها العامة. يبدأ بقوله: (كانت هضبة التلال البيضاء تشتعل ناراً ودخاناً) أو كما يمضي بتعبيره عن حركة الشمس والقمر ومُضي الأيام ليقول: (دار «رع» بين الأفق الشرقي والغربي عدة مئات من الدورات، وكذلك دار «خنصو» إله القمر ذو الوجوه المتعددة دوراتٍ ودورات...)، ليبدو لمن يقرأها يتخيلها قبل الترجمة بالعربية بأن النص في لهجته الجبتية الأصلية يبدو كأدب حقيقي حالم.

قراءة في سفر «العالم»

حين نقرأ «سفر انبثاق العالم» في كتاب «الجبتانا»، نلاحظ كيف يذهب الاعتقاد القديم إلى التسليم به، حيث اعتقد المصريون طويلاً أن العالم هو مصر، وهذا الاعتقاد أخذ يستمر حتى القرن العشرين وعند عوام المصريين، ليختلط اعتقادهم القديم بالحديث في أن مصر هي المهد، وأن اللغة المصرية (الجبتية) هي لغة الآلهة، تماماً كالهنود القدماء حين اعتقدوا أن اللغة السنسكريتية هي لغة الآلهة، وهكذا حتى خرج العبريون باعتقادهم المعروف أن «أدوناي» أو «إلوهيم» لا يعرف إلا اللسان السامي العبري. ونلاحظ أيضاً في هذا السفر خطأ شهيراً في أن القلب هو المفكر، والمثير للاهتمام أن أرسطو تبنى هذا الاعتقاد، على اعتبار أن المخ ليس سوى جهاز يضبط حرارة الجسم.

أدب الطعام وصيامه في سفر القمح

من أجمل ما قرأنا في كتاب «الجبتانا» ويستحق نقله هنا هو سِفر القمح والكوشير، والأخير يعني «الكشري»، فبعد دفن أحدهم يدعى جبتو أوحي عن شعيرة الصيام والإفطار على الكوشير، وذلك منذ فجر اليوم الحادي عشر من شهر بشنس، حتى الغروب، وهو الشهر التاسع في مصر وتحديداً يبدأ من 9 مايو لينتهي في 7 يونيو، وأمر أن يكون الصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب، ليصبح ذلك تحية لـ«رع» الذي علمهم زرع القمح والحبوب وأكل الكوشير المكون من حبوب القمح والعدس والفول والحمص والثوم والبصل مطهواً في الأواني الفخارية على نار «نوت» سيدة السماء، وهكذا حتى صار يوم كوشير عيداً مصرياً.

16

سفراً تناقلها المصريون عمّا يخص نشأتهم وتكوينهم زمناً طويلاً، دوّنها وأرّخَها المؤرخ مانيتون السمنودي بأسلوبه الجميل والحيّ لتبقى وتُغنّى إلى اليوم.

3

بعد البحث عن تاريخ ولادة ووفاة مانيتون المجهولة، بين فترة وجوده في زمن الإسكندر ومن خلفه من القادة، ظهرت فجوة كبيرة في عمره بلغت ثلاثة قرون.

30

وثق مانيتون ثلاثين أسرة مصرية ملكية فرعونية حكمت مصر، وبالترتيب الزمني مع الأسماء والأحداث والتفاصيل الدينية والاجتماعية، ليتخذ الدارسون هذا الكتاب مرجعاً لهم.

 

 

 

Email