أمس واليوم
جبل ثهلان في الإرث الشعري... جذب وحنين وأفول بعد سطوع
بقي جبل ثهلان الواقع في نجد على ألسنة الأدباء والشعراء طوال العصور الماضية العربية منها والإسلامية إلى الحديثة، لتمنحنا كل تلك النصوص بعد البحث عنها، مدى الجذب الذي أخذه هذا المكان من القاصي والداني ورغم أنه جبل رمادي أقرب إلى السواد، لكنه بقي مؤرخاً في الأدب، فما الذي حدث حتى أصبح المكان خافتاً بعد ألقٍ وسطوعٍ مدة قرون طويلة؟ لنقدم اليوم تلك النصوص التي شكلت كينونة ثهلان وبقاءها.
..وانْهدَّ ثهلانُ
حين رثى الشاعر الأندلسي (في القرن الـ13 م) أبو البقاء الرندي بلاد الأندلس بعد ذهاب سلطتها من أيدي المسلمين والعرب، أخذ يشفق من خلال قصيدته المشهورة «لكل شيء إذا ما تم نُقصان» ويعطف على المدن العربية الأخرى، مكتوياً بالحسرة على ما جرى لبعضها من زوال أو ضعف، فذكر جبل ثهلان من بين كل تلك المدن من قرطبة ومرسية وشاطبة وجيان، وما أصابها من جلل وكيف هوت وانهدت بتعبير مجازي كما انهدَّ ثهلان الواقع في نجد:
دَهــى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له
هـوى لـه أحُــدٌ وانْهَــدَّ ثهــلانُ
فـي الـعين في الإسلام فارتزأت
حـتى خـلت مـنه أقطار وبلـدان
فـأسـأل بـلنسية مـاشان مرسيــة
وأيـن شـاطبــة أم أيــن جـيــان
وأيـن قـرطبــة دار الـعلوم فكـم
مـن عـالم قد سما فيها له شان
وقد فسر الشاعر صبره وعزاءه لكل ذلك السقوط مشبهاً إياه بسقوط جبل أُحُد المعروف في (يثرب) المدينة المنورة، وجبل ثهلان في نجد.
أبو تمام
لكن قبل الرندي بأربعمائة عام، كان صاحب البيت المعروف:
السيف أصدقُ إنباءً من الكتبِ
في حدة الحدِّ بين الجدِّ واللعب
وهو الشاعر العربي أبو تمام، ذو الأصل الحائلي من قبيلة طيء في جزيرة العرب الذي ولد في حوران وعاش في مصر ومات في الموصل، والذي قال في قصيدته المشهورة «كف الندى» ليأتي بسيرة جبل ثهلان أيضاً في نهايتها:
كفَّ الندى أضحت بغير بنان
وقناتُهُ أمست بغير سنانِ
جبل الجبال عُدَت عليه ملمة
تركته وهو مهدم الأركانِ
إلى نهاية القصيدة:
حَمّالُ ما لَو حلَّ أصغَرُهُ عَلى
ثهلانَ لانهدَّت ذرى ثهلانِ
مالكُ الجبل
ومن لا يعرف جبل ثهلان سيقول بأنه جبل ملهمٌ في تكوينه، أخضرٌ في لونه، لكنه في الواقع رمادي لا أخضر، ومع ذلك كان في الزمن البعيد رمزاً للملكية الفريدة من نوعها لقومٍ دون غيرهم من أهل المنطقة، حيث كان يعود قبل الإسلام في ملكيته إلى بني النمير ويدعى صاحبه نمير بن عامر بن صعصعة، ليملك كل الجبل وما حوله من ماء ونخيل، كي نتصور أيها القارئ مدى اختلاف ما يملك.
قرية الشعراء
وثهلان بفتحة على الثاء وسكون على الهاء هو جبل قاتم اللون، لتبقى شهرته لا في سواده فقط، بل كذلك ما حول الجبل من نواظر، فمن شرقه تقع قرية الشعراء الشهيرة والتي ذكرت في المعاجم وفي قصائد العرب، ومن جانبيه الشرقي والغربي معاً فثمة واديان كبيران يمتدان على طول امتداده، بسيول تسقط في وديان أخرى كوادي الرشا ووادي الشعراء أو كما يقول البعض وادي كلاب، ليمتد الخير، ويصفه الشاعر العربي الشهير الحارث بن حلزة المكان بخيراته:
وَحَـمَـلـنَـاهُـمُ عَـلَـى حَـزمِ ثَـهـلانِ
شِـــــلالاً وَدُمِّـــــيَ الأَنسَـــــــاءُ
وَجَــبَــهــنَـــاهُــمُ بِطَعنٍ كَمَا تُنهَـزُ
فِــي جَـــمَّــةِ الــطَـــوِيِّ الـــدِلاءُ
وقال أيضاً:
فلــــــو أن مــــــــا يـــــــأوي إلــــيّ
أصـــــاب مـــــــن ثهـــلان فندا
أو رأس رهـــــــــــــــــــــــــــوة أو رؤو
س شمــــــــــارخ لهـــــــددن هـدا
والرهوة من رهاء كما أتى في معجم المعاني وهو المكان المنخفض الذي يجتمع فيه الماء والناس، أما الشمارخ فهي أعناق النخل الحاملة لثمار التمر.
ثهلانٌ أم ذهلان
لنستشف في موضوعنا هذا جبل ثهلان الواقع في العالية لم يكن وحيدًا في الصحراء، بل حوله وديان ونخيل وري لمياه رقراقة ووفيرة لبني النمير تأخذ سُبُلاً وتنتج شعاباً، نتيجته عدم استغرابنا الآن في أن يكون للشعر آنذاك حضوره في مكان مثل هذا.
من جانب آخر يقول البعض بأنه كان يدعى ذهلان وليس ثهلان، والثهل هو الانبساط في الأرض، لكن الجبل كما نرى ضخم بطوله وعرضه، والدليل الأمثلة التي خرجت من كونه ثقيل الوزن، كهذا المثل الشهير: «أثقل من ثهلان». فما أثقله إن فكرنا على صدورهم، هذا الثقل إن عبرنا به كمجاز للتشبيه به إن مروا بظروف قاسية.
امرؤ القيس
وذهاباً على ذلك، فإن الحيوانات المفترسة من ضباع وثعالب وذئاب كانت تعيش حول هذا الجبل، بالإضافة إلى القطط المفترسة، والطيور الكاسرة الحائمة في أعلاه كالعقبان السمر السريعة الهجوم على فرائسها، حتى أن بعض العرب أطلقوا على الجبل «ثهلان الوحش» وكان الشاعر امرؤ القيس له في ذلك وصف:
كأنهـا حين فاض الماء واحتفلــت
صقعاء لاح لها بالقفرة الذيـب
فأبصرت شخصه من فوق مرقبة
ودون مـوقعهـا منـه شنـاخيـب
فأقبلــت نحـو في الجــو كاســــرة
يحثها من هوى الريح تصويب
والصقعاء نوع من أنواع العقبان الضخمة الشرسة وهي موجودة حتى الآن.. ونفهم من ذلك كثرة الموجودات من الطبيعة حول هذا الجبل من جمال وقسوة، من هضاب وحيوانات لم تعد موجودة هناك كالأسود والوعول والغزلان والنعام... والتي رسمت ونقشت على صخور هذا الجبل، وبالقرب من كهوف هذا الجبل التي لا حصر لها، ومع غارات عديدة بأسمائها كغار العين وغار النقاب وغار رجوي.. مروراً بالوديان الكثيرة، والتي أنبتت حولها أشجار ثهلان من النخيل والطلح والسمر والسدر والمرخ والعشر والرمث، مروراً بالنباتات حولها من النقيع والثمام والربلة والمرخ والشرشر الذي يعد دواءً وعشباً معالجاً للفشل الكلوي، ونبتة النصي الجميلة، ونبات الحوذان المزهر، لتصبح كل تلك المياه وما تشامخت بها من أحياء لبني نمير أبناء صعصعة، وكل المياه التي توفرت بفعل الأمطار، فجذبت التجمعات المائية الحلوة قوافل الحج والتجارة قبل الإسلام وبعده، لتبدو كعلامة مكانية تَعْبُرُها لتتخذها استراحة ومحطة كبرى.
أدب الجبل
تخرج السلع هناك وتنغرس الحياة وتتفتح بكل مكوناتها من هواء وحب، وبالتالي نثق تماماً بخيالنا الآن كيف كان جبل ثهلان عالماً خصباً لرعي المواشي طوال أيام السنة، فلا غرابة أن يكثر عليه الشعر ويصبح اسماً شهيراً ومؤثراً على ألسنة الأدباء ليوثقوا لنا أدباً من آداب الجبال حتى يومنا هذا.
وادي الشعراء
يبلغ عرض جبل ثهلان 16 كيلومتراً وطوله 35 كيلومتراً، أما ارتفاعه فـ1261 متراً، وتسمى قمته بقمة الرعن، وأصبح مشهوراً في عصرنا الحديث بصخوره المتحولة جيولوجياً، فصخور ثهلان الشمالية الشرقية تميل إلى اللون الأحمر، لكن ما يهمنا من هذا الحديث، هو كيف يمتد واديان كبيران من الجبل، لتنحدر سيوله فيهما غربياً وشرقياً ويُشكلا معاً وادي الرشا ووادي الشعراء، أما الأخير فسمي أيضاً بوادي الكلاب.
ووادي الكلاب هذا يمتلئ بالنخيل والماء والنباتات والأشجار، ليصبح أصحابها بني النمير من الأثرياء المختلفين فيما يملكون من اتساع بما فيه، فوادي الكلاب بطوله يحتاج مسيرة ليلتين، أي سير يومين بين النخيل والمياه، فلا غرابة أن يظل هذا المكان في ذهن الشعراء إن لم يكن آسراً في جماله المتفجر في بطن وادي الرشا حتى ظهور جبل ثهلان، ليشتهر ويصبح عامراً، ويدخل في كتب المؤرخين وأخبار الموثقين.
ونعود لما قاله الشعراء عن وادي الكلاب، منهم الشاعر العربي التميمي ذي الرمة الذي عاش بين القرنين السابع والثامن، خلال العصر الأموي :
فما شهدت خيل امرئ القيس غارة
بـثهلان تحمى عن ثغور الحقائق
كما يشهد الفرزدق بقوة الجبل:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتـــا دعائمـه أعـــز وأطــول
فادفع بكفك إن أردت بناءنـا
ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل
وقال أيضاً بشار بن برد:
ولقد قلت حين وتّد في البيت
ثقيل أربى على ثهلان
إلى الشاعر العربي عِقال بن خويلد الذي يصل بنسبه إلى كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة:
أيا جارتينا مـن نمير بـن عامــر
أجد البكا إن التفرق باكرا
فما دون شعب الحي أن يتفرقوا
بثهلان إلا أن ترد الأباعر
وهكذا حتى أصبح هذا الجبل بوادي الكلاب رمزاً للأدباء من الشرق إلى الغرب.
قصيدة النابغة الذبياني تقيس المسافات في ثهلان
يقول النابغة الذبياني في قصيدته المشهورة «ودع أمامة والتوديع تعذير»:
ودّعْ أُمـامـة َ، والتّوديـعُ تَعْذيـرُ
وما وداعكَ منْ قفتْ به العيرُ
وما رأيتـكَ إلاّ نظـرة ًعرضتْ
يوْمَ النِّمارة، والمأمورُ مأمورُ
إنّ القُفولَ إلى حيَ، وإن بَعُدوا
أمسَوْا، ودونَهُـمُ ثَهْـلانُ فالنِّيرُ
والنابغة المنتمي إلى قبيلة غضفان الذي سكن بادية نجد والحجاز بالقرب من جبل ثهلان، يصور في نهاية الأبيات هنا (ودونهم ثهلان فالنير)، مدى المسافة بين جبل ثهلان وجبل النير، والتي تبلغ مسيرة يوم.
البحتري يصف سمو الماجدين في ثهلان
ولد الشاعر البحتري الطائي الأصل في منبج، ووصف شعره كسلاسل من ذهب، خاصة بعد قصيدته المشهورة التي مطلعها:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
لكن ما يعنينا هنا أن لديه قصيدة بعنوان «كم من وقوف على الأطلال والدمن» يصف فيها الجبل، وكيف تَمجدت أقوام وسمت كجبل ثهلان الثابت:
تَسمُو بَواذِخُ ما يَبْنونَ مِن شَرَفٍ
كما سما الهَضْبُ من ثَهلانَ أوْ حَضَنِ
وَلَيسَ يَنفَكُّ يُشرَى في دِيارِهِمِ
وَافي المَحَامِدِ بالوَافي مِنَ الثّمَنِ
امرؤ القيس يقف على أطلال جبل ثهلان
يصف الشاعر امرؤ القيس في قصيدةٍ له، جمال الظباء والطيور الجارحة والنخيل ووجوه الحسان في ثهلان، ويق على أطلال المكان، فيقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان
وَرَسْمٍ عَفتْ آياتُه مُنذُ أزْمَانِ
إلى قوله:
على هَيكَلٍ يُعْطِيكَ قبلَ سُؤالِهِ
أفانينَ جري غير كزّ ولا وانِ
كتَيسِ الظِّباءِ الأعفَرِ انضَرَجَتْ له
عقابٌ تدلت من شماريخ ثهلان
ويقصد بانضرجت له الطريق أي اتسعت، وشماريخ جمع شِمراخ وهو العنقود الذي عليه العنب أو العثكال أي عذق البلح، لنستدل على خضرة المكان وكثرة ثماره والحياة البرية الكاملة هناك.
1923
قال الشاعر المصري إسماعيل صبري باشا المتوفى عام 1923م في وصف الأهرامات:
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى
ما يأخذ النمل من أقطار ثهلان
8
قال جحدر بن مالك اللص، أحد شعراء بني أمية الذي عاش في القرن الثامن الميلادي:
ذكرت هنداً وما يغنـي تذكرها
والقومُ قد جاوزوا ثهلان والنيرا
6
بِشر بن أبي خازم الأسدي، شاعر عربي نجدي عاش قبل الإسلام في القرن السادس الميلادي، وله بيت مشهور في ثهلان:
وسل نميراً غداة النعف من شطب
إذا فضت الخيل من ثهلان إذ رهقوا