لا شك أن والد المؤرخ العربي المعروف، عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي، اهتم به اهتماماً مدروساً، فليس هناك سر أو معجزة في أن طفله الذي كبر كان متجلياً أو منكشفاً بنبوغه، ويقيناً أنه كان مجتهداً في حضوره وعطائه من دون فوضى، فلم يكرس نفسه للمعرفة إلا بعد أن تلقى من والده الفقيه والمهتم بالأدب، تعليمه المدروس والراقي منذ طفولته، ليوفر له أفضل الأساتذة وأشهرهم.
ابن خلدون الطفل
تحققتُ عن ابن خلدون عبر التعاليم التي تلقاها منذ الطفولة من مصادر عدة، تقول إنه درس منذ صغره التاريخ والأدب والنحو واللغة والخطابة والبلاغة وفن الكتابة وعلم الخطوط والمنطق وعلم العقل (الفلسفة). وهذا يعني ثقافة كبيرة من التراث، مما جعله متعطشاً للمزيد من المعرفة، بل والاستزادة وغرف المزيد والوافر، كي لا يتوهم أنه اكتفى بمقاييس أولئك المزدحمين في أنفسهم بشعور الاكتفاء.

الكتابة
ورغم أن ابن خلدون ولد وعاش في فترةٍ كانت فيها الحضارة الإسلامية في حالة ضعف وقلاقل، بالإضافة إلى ما مر به من فقدان لأهله وأصدقائه، مع معايشته زمن انتشار الوباء وظروف صعبة عدة مَرَّ بها، لكنه لم يتوان عن مغادرة المدن للحاق بمدينة أخرى، كي يدرك العلماء والأدباء والأساتذة من مكان إلى آخر.
ولكن، اختص في موضوعي هذا مكان مخطوطاته وخط يده، وأتطرق هنا إلى خطه الأصلي لا المنسوخ عنه في مخطوطاته الثلاث، فيما بعد. لأجد المخطوطة الأولى التي كتبها ونسخها بخط يده كانت عام 1351م، أي بينما هو لم يكمل العشرين من عمره بعد فقد ولد عام 1332م، ورغم سنه الصغيرة وقلة تجاربه، بقيت أسس التعليم الذي تلقاه والعلوم التي نهلها بشكل منظم ومدروس، كفيلة بتأليفه هذه المخطوطة والتي هي بعنوان «لباب المحصل»، أقدم وأول مخطوطة لابن خلدون، وهذا يعني أنه لم يكمل العشرين من عمره بعد.
هذه المخطوطة «لباب المحصل» وجدت طريقها إلى إسبانيا، وبالتحديد في مكتبة الاسكوريال، شمال غرب مدريد، مفهرسة ومرقمة، وتتألف من 65 صفحة. ولم أجد من هذا الكتاب سوى نسخة واحدة فقط، من الخط المغربي الذي استخدمه ابن خلدون نفسه، وقد حافظ على هذا الخط الذي كان موطنه الأصلي هو الأندلس، الذي امتد وانتشر بعد ذلك إلى تونس وليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا والصحراء، والشاهد أنه خط جميل متأثر بالخط الكوفي منذ دخول الإسلام في القرن الأول الهجري إلى الشمال الأفريقي.
الخط المغربي
ابن خلدون هنا في كتابه «لباب المحصل» كان قد استخدم الخط المغربي الذي تعلم عليه، وهو ذو حروف صاعدة، مثل: الألف والتاء واللام والزاي، فنادراً ما كانت عند ابن خلدون مستقيمة، ليجعلها منعطفة واضعاً على رؤوسها ما يشابه النقطة، متبعاً بذلك شكل الخط المغربي المعروف والمستخدم، ليظهر الضاد والتاء والظاء على شكل بيضة، أما حروف السين والشين والصاد والميم والنون، فإن نهاياتها ممتدة الشكل، ولم يقم بتنقيط حرف الباء والنون والفاء والهمزة والهاء المربوطة، وهي سمة من السمات الأندلسية، حيث وضع ابن خلدون أسفل حرف الفاء نقطة. أما القاف فنقطة مركبة. بينما الصاد والضاد فلا بروز لهما.

ورقة من مخطوطة صغيرة من كتاب «مقدمة ابن خلدون»، وهي متوافرة حالياً في مكتبة عاطف أفندي التابعة لإدارة مكتبة السليمانية في إسطنبول بتركيا، والتي تحوي أكثر من 6 آلاف مخطوطة عربية. أما هذه القطعة التي نشير إليها، والمنسوخة بالخط المغربي، فتعود إلى عام 1402م، ونسخت بيد ابن خلدون نفسه، وتتضمن ملاحظاته عن ملكية وبيع المخطوط، ليرد فيها ما يلي:
«هذه مسودة المقدمة وكتاب العِبر في أخبار العرب والعجم والبربر وهي علمية كلها، كما أن ديباجة التاريخ قد قابلتها بجهد وصححتها، وليس يوجد من نسختها أصح منها. وكتب مؤلفها عبد الرحمن بن خلدون، وفقه الله تعالى ... ».
دلالات الحرف
اجتهدنا هنا في تفسير خطه السابق، من خلال قراءاتنا في تحليل الحرف العربي كما يلي.
لخط ابن خلدون دلالات تمسه، فلكون النقط متباعدة في مسافاتها مع الحرف، فهذا يعكس طبيعة شخصيته كما يقول تفسير الحروف والخطوط، في أنه موضوعي وعقلاني لدرجة كبيرة، ويقيناً أنه واسع الخيال وفخور بنفسه. أما كلماته المستقيمة كالمسطرة ونقشه للحروف فتبين حجم خطه الصغير، وتوضح أنه غير متطرف في أفكاره ويجيد التحكم في نفسه، فحرف الياء كما نرى في كلمة «العلي» في السطر الأخير، وبهذه الطريقة المنسوخة، فإن الدلالات هي الطموح والتفاؤل. وكما هو واضح لدينا، أن حرف السين لديه في ثلاث كلمات: «مسودة» و«ليس» و«نسختها». والدلالة هنا أنه رجل سمعي وليس بصرياً، فلو كان يعيش في عصرنا لكان ميالاً إلى المذياع أكثر من التلفاز.
يتماثل ذلك مع حرف الكاف في كلمات: «كتاب» و«كلها» و«كتب»، فطريقة كتابته للكاف تدل على أنه شخص انفعالي بعض الشيء ومتعب في التعامل مع الآخرين، وهذا غالباً يعود لمزاجيته، كما أنها صفة المبدعين إجمالاً.
وأخيراً حين وضع اسمه وتوقيعه في أسفل السطر: عبد الرحمن ابن خلدون، كان حرف الخاء مفتوح الرأس. وهذا يعني انفتاحه على الآخر والقدرة على التكلم أمام الآخرين بطلاقة وبلاغة. لأنه إن أتى هذا الحرف مغلقاً فيدل على العصبية، وإن كان مائلاً يدل على العناد، وما ينطبق على الخاء ينطبق على الحاء والجيم. وأخيراً، فإن حرف الهاء الذي كتبه صغيراً في نهاية الكلمة ومفتوحاً، فالدلالة هنا أن القيادة في روحه، وتقابلها صعوبة انقياده.

كتاب «المحصل» كتبه ابن خلدون بين جغرافيات عدة
لم يكن ابن خلدون بحاجة إلى انتقال في جغرافيات العالم ليكتب كتاب «المحصل»، فما كان لديه من علوم مكتسبة ومصادره المتوافرة من الكتب، كفيلة بصنع كتاب آخر بعد الاطلاع عليها. ولكن بعد قراءته لكتاب «المحصل» لشيخه الآبلي شيخ العلوم العقلية في المغرب، وقراءته لكتاب ألفه الرازي الطبيب المعروف والفيلسوف وهو بعنوان طويل جداً «محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين». وهذان الكتابان دفعاه لكتابة «المحصل». الذي كتبه وهو في فاس بالمغرب لينهيه في تونس، فأخذ ابن خلدون يحقق في كتابي الآبلي والرازي: يحذف ألفاظاً ويستغني عن بعضها ويضيف جواباً إلى أسئلة وينسج على منوال ما كُتب، فشرح فيه أصول الدين.

العنوان الطويل لكتابه «العبر» تم اختصاره لـ «المقدمة»
هذا الكتاب كغيره من الكتب في ذلك الزمان، عنوانه طويل جداً: «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، تم اختصاره بـ «العبر». وكانت مقدمة الكتاب كأنها تأليف منفصل، لها طابع موسوعي ومحاولة لفهم التاريخ، ليُعرف بعدها ويصنفُ مؤرخاً. أكمل ابن خلدون كتابه «المقدمة» بأبوابه لاحقاً في مصر، وقدم نسخته هدية للسلطان الظاهر برقوق عام 1385م، وكان حينها قد تجاوز الخمسين من عمره. وبقي منه حتى الآن سبع نسخ كلها في مكتبات إسطنبول التالية: عاطف أفندي، آيا صوفيا، أحمد الثالث، حالت أفندي، نوري عثمان، مكتبة حسين جلبي، حكيم أوغلو في بورصة.

سيرة ابن خلدون الذاتية ومذكراته في كتاب «التعريف»
يمثل هذا الكتاب سيرة ذاتية عن ابن خلدون، يعرف به بنفسه، ويغطي فيه أخباره وأحداثه شرقاً وغرباً، وعن نسبه العائد إلى حضرموت، من عرب اليمن ونسله كما قرأته شخصياً في كتابه «التعريف» هذا، بأنه يعود إلى وائل بن حُجر بن سعيد بن مسروق، والذي يعود إلى مالك بن لأي بن قحطان. أما أسرة ابن خلدون، وتحديداً بدءاً من جده العاشر، فأتت من إشبيلية إلى تونس، ليأتي تعريف نسبه بأنه قحطاني حضرمي أندلسي تونسي.
وقد أتم نسخ هذا الكتاب، الناسخ ابن الفخار الذي كان يرافقه، وكان بمثابة الكاتب الشخصي لابن خلدون نفسه، وكتاب «التعريف» متوفر حالياً في مجموعة نسخ، إحداها في مكتبة أحمد الثالث، وواحدة أخرى في مكتبة آيا صوفيا. «وهاتان المكتبتان توجدان في إسطنبول».

زبدة الفكر الأوروبي
أن تكون مجمل مخطوطات ابن خلدون في تركيا، فإن ذلك جعل الأتراك يقتبسون من علومه، ويذكرونه خلال كتاباتهم عبر التاريخ السلطاني. فبعد الدراسات التي قام بها الغرب التركي والأوروبي لـ«مقدمة» ابن خلدون، ثم نشر هذه الدراسات البحثية عنه مترجمة في باريس عام 1858م، وبعد أن أصبح النص باللغة الفرنسية بين يدي المفكرين الفرنسيين، أصبحت زبدة وخلاصات الفكر التاريخي والاجتماعي، آنذاك، وللمرة الأولى، متاحة للعالم الحديث.
هذه الترجمة التي قام بها البارون الفرنسي وليم ماكجوكين دي سيلان، خرجت على أثرها العديد من المقالات حول مقدمة ماكجوكين في الصحف الأوروبية، بالإضافة إلى نشر مقتطفات وترجمات من «مقدمة» ابن خلدون نفسها. وحينها قام الغرب بإطلاق لقب «مونتسكيو العرب» على ابن خلدون.
لكن يبقى الاهتمام الأقدم والأشهر بابن خلدون هو للعثمانيين، الذين تحدثوا عن مدى إهمالنا نحن العرب لابن خلدون، وأنه كان منسياً حتى عند قومه، ليترجموا كتبه إلى التركية ومن ثم أخذوها من مصر إلى تركيا ومكتباتها، خاصة كتاب «العبر» و«المقدمة»، لتصبح كتبه مقروءة بحلول القرن التاسع عشر، بعد أن كتب المؤرخ التركي كاتب جلبي عن ابن خلدون ونفوذه الفكري، ومن ثم وصف كتبه واقبس الكثير من هذه المقدمة.
كما ناقش واقتبس من «مقدمة» ابن خلدون حرفياً، المؤرخون والكتبة والفلكيون والدبلوماسيون وعلماء الدين، ذلك باعتبار الكتاب مليئاً بجواهر العلم ونفائس الحكمة.
1351
كتاب «لباب المحصل» لابن خلدون الذي كتبه بخط يده عام 1351م، موجود الآن في مكتبة الأسكوريال في إسبانيا، ضمن المخطوطات النادرة التي تحتويها هذه المكتبة الضخمة.
14
وصلت مخطوطة «العِبر» الأصلية لابن خلدون إلى المتحف البريطاني، وهي التي وضع فيها المؤرخ بخط يديه شجرة الأنساب، والتي تعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي.
15
في القرن الخامس عشر الميلادي، تم إدخال نسخة من «مقدمة ابن خلدون»، إلى مكتبة آيا صوفيا في إسطنبول، وهي نسخة تحتوي على الهوامش، وبها ملاحظات.
