شجرة صلبة ومؤرخة فكراً وروحاً 2-2

اللبان العطر والشافي بين التأمل والتجارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن تاريخ شجرة اللبان، وكيف انتشر المنتوج عبر العالم وأثر في البشرية فكراً وروحاً. ونكمل حديثنا اليوم عما يُحدثه هذا اللبان في الذهن من خلال المنتوج العطري والزيتي على الجسد والذهن، خاصة بعد انتشاره عبر العالم. فهو الأكثر قيمة، بعد أن تم تكريس اللبان كبخور عبر آلاف السنين.

ونستعرض في هذا الجزء خطوات استخراجه من الشجرة بأنواعه الصمغية الملهمة، ومدى المتاجرة بهذا المفهوم العطري الشافي.

الأراضي المنتجة

يأتي الصمغ من لحاء شجرة اللبان، لكنه وعلى مدار السنة ومع اختلاف المناطق، تخرج تلك الكميات مختلفة ومتباينة عن بعضها البعض، بين الجودة العالية لتماثل حبوبه لون الفضة وكأنه البلور، لتتدرج إلى أرخص نوع وهو الذي يميل للاصفرار، وهو أكثر المتاح في السوق.

ليس من السهل وصول الأراضي المنتجة، نظراً لبعدها عن مدن العيش السهلة، لتصبح هذه الأراضي بعيدة عن السكان حيث التلال الساحلية في جنوب عمان تحديداً، ليزدهر اللبان هناك.

من الضروري استخدام سيارة مجهزة جيداً للوصول إلى هناك، حيث يحتاج الأمر قيادة السيارة لمدة 11 إلى 12 ساعة لبلوغها، وهذه الأراضي التي تتاجر باللبان منذ آلاف السنين حاول كثيرون السيطرة عليها، وإحدى وأقوى تلك المحاولات كانت للرومان الذين فكروا بجدية في قهر هذه التجارة والتحكم بها.

وتحديداً في القرن الأول الميلادي، الأمر الذي أدى بهم إلى إرسال 10 آلاف جندي للمنطقة للمراقبة، كان عبورهم للمنطقة بمثابة كارثة على الجنود، لعدم قدرتهم الوصول إلى هناك بسبب الحرارة الشديدة وجفاف الصحراء.

وهذه الأراضي تعتبر الأغلى حتى يومنا هذا، ومنذ تلك العصور، وحسب ما ورد في كتب هيرودوت، والذي حذر من أشجار اللبان التي تحرسها الثعابين الطائرة، إلى إحصائيات التجارة هذه الأيام.

رائحة الأشجار

في تلك المناطق الصامتة والمجدبة، وحين تقترب من أشجار اللبان المنتشرة، تتبعك رائحتها الموحية بأنها عبير لفاكهة مشوية على النار وكأنك في مخيم، وأحياناً تحمل للقريب منها شذى العلكة أو أريج القِدم، هذا الاحتراق الذي تُغرم به الشعوب جميعها، ليتم الطلب على اللبان على الدوام.

إذ يستخدم، ومنذ زمن بعيد وحتى الآن، في حفلات الزواج والولادات، كما كان يبخر في التاريخ القديم الأشخاص والمعابد، والأهم أن هذه الرائحة المِسْكيّة أو الليمونية التي تستحوذ على الثعابين هناك، تخيف الغرباء، بينما أن الحاصدين والعاملين هناك، وبفضل خبرتهم التاريخية، يتمكنون من التخلص من تلك الثعابين بطريقتهم الموروثة، فيبخرون الأشجار ذاتها ومن لبانها، كنوع من «التسامح مع الأرواح الشريرة الملتبسة بها في الأجواء»، كما هو المعتقد، حتى تبتعد.

طب الحياة

اتفق جميع أطباء العالم، قديماً وحديثاً، على فوائد اللبان الطبية، فبعد الطب التقليدي بأفريقيا وآسيا، تفوق الطب «الأور فيدي» أي: علم الحياة، الذي ينادي بضرورة التوازن بين الهواء والنار والماء والتراب في حياة الإنسان، لأهمية طب الأورفيد المرتبط بعافية الجسم.

ويتناول هذا العلاج الأور فيدي بتوسع في الهند، الذي أخذ بالانتشار الآن في كل العالم، وكذلك اللبان ولكونه شفافاً وخفيفاً جداً، وبالتالي يعالج التهاب المفاصل ويضمد الجراح ويعزز الهرمونات الأنثوية، حين تناوله كدواء سائل ومطابق لمفهوم وتأثيرات الماء، عن طريق تلك الخلطات اللبانية المعروفة.

وكذلك مفهوم النار بحرقه وانتشاره بالهواء لجلب الصحة والمزاج الحسن، ولأنه يميز الخلايا كلها، فيقمع المضر منها، والقولون والقرحة، ولأنه آمنٌ للاستخدام البشري، خاصة بعد أن تم التحقيق العلمي في ذلك، وإضافة إلى أن زيوت اللبان تخفف من لسعات العقارب والحشرات، فإن اللبان بات علاجاً أور فيدياً أيضاً، لتماثلهما بالعناصر والأهداف.

فرط الإنتاج

تم خلط اللبان مع النفط عن طريق تقطيره تقطيراً بخارياً مع بعض زيوت أساسية، لإنتاج أنواع عطور شافية، وحلوة في آن واحد، لكونها تتضمن البلسم الجيد مع رائحة اللبان الجيدة وكميات قليلة من الأحماض المذيبة.. لإنتاج العطور والبخور ومستحضرات التجميل، مع الاستمرار في إنتاج هذه الأدوية اللبانية بكثرة، الأمر الذي أدى لتراجع هذا الإنتاج، للفرط المستمر في هذا الاستثمار والطلب الحاد على تلك الأشجار من الشرق إلى الغرب، ما أدى إلى انخفاضها بنسبة 90% في القرن الماضي.

ورغم الاستخدام التجاري للبان الصومالي، الأقل جودة وتكلفة، فما زال الطلب الشديد يذهب للسوق العماني الأكثر جودة، وبالمقابل فإن الحكومة العمانية تصدر كميات محدودة لإحياء قيمة التجارة اللبانية بأرقى المتاح لديها.

وأخيراً نقول: إن اللبان يعزز الحيوية والنشاط بفضل تأثيرات رائحته المنعشة، لذا ارتبط الفرد ومنذ القدم من خلاله بالفكر الروحاني الكوني، ليؤدي به إلى التأمل.

أنواع بنفحة الحضارات

إن تحدثنا عن نضارة اللبان وأجود أنواعه في مستواه، فهو اللبان الحوجري، الذي يعود بأصله إلى ظفار، وينمو على أشجاره المتوفرة فقط في تلك الأجزاء الشرقية من المنطقة، وعادة يستخدم هذا النوع للتبخير في المناسبات الاجتماعية المرتبطة بالزواج والولادة، لتصبح تلك التجمعات شافية، بالإضافة إلى أنواع أخرى جيدة، مثل: الشعبي والنجدي والشزري والكندر.

وهناك الذي يصل لونه إلى الأخضر المضيء والأغنى على الدوام، وهذا نادر الحصول عليه، ومخصص للزيوت الشافية، إلى اللبان الذكر بمزاياه اليومية والمستخدمة كأدوية للصداع والروماتيزم والحروق وآلام المفاصل وأمراض لا حصر لها. وقد قال عنه الطبيب ابن سينا المشهور: «اللبان يداوي جميع الأمراض».

مخرجات حديثة

من مخرجات اللبان الحديثة والمطلوبة بشدة الآن في الدول الصناعية المتقدمة، زيوت اللبان المطهرة والمؤدية للاسترخاء للإنسان في تلك المدن الغربية الصناعية المتقدمة والسريعة في إيقاعها، وباتت تلك الزيوت المصنّعة تزيل كآبة المكاتب بعد ساعات طويلة، ليتم مزج زيوت اللبان بالزنجبيل واللافندر واللوتس الوردي والياسمين والبرتقال وخشب الصندل والزعتر والتبغ والحمضيات وأزهار عطرة أخرى. فكانت المخرجات هائلة ومبهجة للزيوت المستخدمة، التي بات الطلب عليها عالياً.

جمع اللبان من البرية

ما أن تميل درجة الحرارة إلى الارتفاع قليلاً في شهر أبريل من كل عام، يهرع المزارعون والعاملون والمشتغلون نحو أشجار اللبان، يقومون بتجريحها في جذعها ومن مواضع متعددة، يبدؤون بالضربة الأولى وتسمى تلك الضربة بالتوقيع، وهو أقرب لكشط القشرة الخارجية لأعضائها وجذعها.

فيخرج السائل الأبيض اللون الذي ما أن يبدأ بالنزول يتجمد، ليترك مدة 24 يوماً، وهذا النوع من أجود أنواع اللبان، لتتالى بعدها الضربات وتخرج الفصيلة البخورية الأقل جودة وبكميات منتجة تجارياً.

أما في أفرع الشجرة، فتنمو في أطرافها حبوب جافة مزهرة، تتحول مع الوقت إلى اللونين الأخضر أو الأسود، حتى تتساقط.

مثلجات اللبان البارد

في عام 2011 تم اختراع آيس كريم اللبان في صلالة العمانية، عن طريق سيدة أعمال أميركية مشهورة، تدعى «تريجف هاريس»، تقيم في ظفار بمدينة صلالة منذ عام 2006، وضعت كل التحديات لقياس هذا الحضور الجديد، فكرست جهدها لإطلاق هذا المبرد «الآيس كريم» بطعم اللبان العماني.

الأمر الذي أثار انتباه العالم إليها، ومنحها خصوصية وبهجة، بعد أن قامت بخلطه مع زيت اللبان العطري الفواح، ومزيج من الصنوبر والنعناع والتوابل، الأمر الذي أدى إلى الطلب المتزايد عليه، لا لكونه نكهة فقط، بل لأنه حدث كبير أمام الناس.

كانت دهشة الناس عالية أثناء استقبالهم هذا النوع من «الآيس كريم»، خاصة بعد نهاية يوم حار، ليبقى «آيس كريم» اللبان منتوجاً يقدم بشكل موسمي فقط، ليقوى حضوره في الصيف.

وتبقى هذه الحلوى الباردة بطعمها الجديد وغير المتوقع تنتج في نيويورك حيث شركة «تريجف هاريس» المخترعة، وبقيت قاعدة شركتها ومقرها الأساسي في عمان، مكان تقطير اللبان وحيث علمت منذ بداياتها أن اللبان بعد تقطيره مختلف تماماً عن ورد الخزامى وإكليل الجبل، لتبدأ بفكرة المشروع.

وهذا بعد أن قدمت للناس في بداياتها ملاعق صغيرة لتجريب النكهة في سوق صلالة الشعبي، ليقول كل من يستطعمه تعبيراً عن الإعجاب (لااا) مع ابتسامة، غير مصدق هذه المتعة الجديدة للبان بتاريخه الممتد.

%82

يأتي الإنتاج العالمي للبان حالياً من الصومال وبنسبة 82 %. وهو أرخص الأنواع، أما بقية المنتج فمن جنوب شبه الجزيرة العربية وإثيوبيا والسودان.

1937

اكتشف الإنجليز عام 1937 أن مركز الإنتاج الرئيسي للبان تاريخياً، مدينة البليد بمحافظة ظفار العمانية، عقب التعرف إلى الأعمدة الأثرية لمينائه.

5

في القرن الـ5 م، اقتصر طريق البخور التجاري في العالم، وتعددت العطريات وتحسنت الحالة الاقتصادية، ليتكرر هذا مجدداً في القرن الـ20.

 

 

 

Email