«أستيقظ من نومي صباحاً» فركت بسبابتها جلد جبهتها المنكمش كما لو أن تجاعيد السنين تورمت ثم احمرت خجلاً فجأة. أكملت: «حوالي السابعة إلا ربعاً» قاطعها وهو يعدل بإصبعي يساره برواز نظارته السميك «التفاصيل المحددة مثل الوقت غير مهمة».
نظرت إليه باستياء، كما تفعل مع من يرمي سيجارته بين الحشائش، أو كما لو أنه نصب فاعلاً أو رفع مفعولاً به. «أوه! توقفي الآن!» نهرت عقلها بصمت. عدلت من جلستها وابتسامتها معاً. أشار لها بأن أكملي، ورأسه بين السطور المائلة والكلمات التي لا تخلو من تكتلات الحبر الأزرق.
تتحدث هي، فيكتب هو. صوتها يتحول على يديه حروفاً. الذبذبات الصوتية الخفية التي تلقيها بكل جرأة من فمها تتدحرج نحوه بخفة بالونٍ في الهواء فيحتويها هو ليخلدها خربشات على ورق.
تنحنح قليلاً ثم نهض بصعوبة من مقعده الجلدي ذي العجلات. رفع الوريقات السوداء عالياً ليتخللها الضوء المتدلي من مصباح الغرفة كما يفعل الأطباء حين يتفحصون نتائج الأشعة. قطب حاجبيه، وبعدها مسح بقوة زاويتي فمه، ثم عدَّل من شعيرات شاربه. خلع النظارة وشبك أصابع يديه فنهضت تستعد لسماع الخبر. «سيدتي...أحم...بعد الاطلاع على الفحوص التي أُجريت لك كافة..بعد الاختبارات التي أكملتِها في الأسابيع الأخيرة هنا في العيادة وبعد الاستماع لحديثكِ المفصل، يسرني أن أطمئنكِ بأنكِ بخير تماماً...أنتِ طبيعية».
«ماذا عن الفراشات الملونة؟» سألتْه وهي ما تزال تحت تأثير الصدمة، فكانت كمن يحدث أشباحاً تسكن جوف الحيطان المدهونة بعناية.
«فراشات ملونة؟» عاد صدى سؤالها بصوته هذه المرة:
«الفراشات التي اعتقدت أنها تسكن عقلي وتطير بروحي. الفراشات التي أردت أن تستأصلها لأغدو طبيعية مثلهم» وأشارت إلى باب الغرفة «الضوء الذي يحمله المبدعون والمختلفون هنا»، وأشارت إلى رأسها، ثم جلست، فقد تركها الانفعال خائرة القوى، محاربة نحيلة في وجه الحقيقة الصارم.
«آه!» ابتسم الدكتور وقد كانت هذه أول مرة يرتكب هكذا أمر «تقصدين ذبابات النار أو حشرات البرق؟»
«نعم. أعتقد أني قرأت عنها تحت هذا الاسم أو العنوان في إحدى المجلات الطبية...أم هل كان ملحقاً لجريدة؟» بدت تائهة مشوشة الأفكار.
«إنها من فصيلة الخنافس وهي مجنحة وتصدر ضوءاً في الظلام. هل تعلمين أن الضوء الذي تطلقه هذه الخنافس يسمى بالضوء البارد لأنه ينتج في جسدها بعملية تفاعل كيميائية وليس عن طريق الكهرباء؟» عقّب: «سبحان الله».
«يصدر عن جميع الكائنات ضوء» تحدثت بكل ما تبقى لها من رباطة جأش «إلا أننا لا نراه لأنه أشعة تحت حمراء».
«لكن ما دخل هذا بالخنافس المضيئة ليلاً؟»
«لكن بعض الكائنات مثل هذه الفراشات تتوهج وسط الظلام وأنا...» غير عابئة به.
«سيدتي..أعتذر فأنا لم أعد أفهمكِ ثم إن وقتكِ..» بدأ يصرخ دون جدوى.
«أنا ظننت أني أملك هذه الفراشات في عقلي...في روحي» بدأت في نشيج متصل وتقطعت كلماتها إلى قطرات دموع غير مفهومة «أنا...ظننت أني...مميزة...أنت تقول..أنا طبيعية». قدم لها الطبيب علبة مناديل ورقية دفعتها نحوه بعنف وفضلت أن تمسح دموعها حول خديها وذقنها، كأنها كانت تتوضأ بتلك المياه الدافئة المالحة.
«لكن...سيدتي، المضيء من الخنافس ليلاً هم الذكور منها فقط !»
لوح بنسخة من مجلة أجنبية علمية في وجهها منفعلاً مؤكداً ما يقول، بينما تركته مسرعة بعصبية نحو موظفة الاستقبال.
صوت الممرضة يخرج من غرفة في آخر الممر وهي تنادي: «التالي!»

