في زمن لم يستطع فيه الناس التفاعل مع العمل الفني، وبالأخص الغريب منه، نجد أن الكثيرين منهم يعدون الفن التجريدي دجلا، يرفضونه في اللوحات والأعمال النحتية، إلا أنه يظهر في كل مكان يحيط بهم، في أشكال وأقمشة المفروشات، وفي الثياب التي يلبسونها، وفي أشكال الديكور الحديثة، والاستخدامات المنزلية، ربما لا ينتبهون إلى أنه تجريد، ولهذا يعجبون به.
فالتجريد يعد بالطبع ميزة الفن الأول في القرن العشرين، إلا أن الإنسان عرف التجريد منذ أقدم العصور لأنه كان يرسم ببساطة دون تفاصيل، على جدران الكهوف. القليل من الفنانين يزعمون أنهم يفهمون الفن التجريدي، فهل فعلا يجب أن يكون كلامهم صحيحا، باعتبار أنه ليس ثمة تفسير للفن التجريدي، وقد يقول البعض ولا لأي نوع آخر من الفنون.
فالفن لا يمنطق ولا يعلل إنما يخترق بالبصيرة، وحين ندخل قليلا في تاريخ هذا النمط في الفن نراه متطابقا مع ما تفسره اللغة، فالتجريد يعني إزالة الهوامش للوصول إلى الجوهر. وقد عرف الفنانون التجريد منذ عصور النهضة، حيث نظر «البنادقة» قديما إلى الفنان «جوفاني» بأنه كان يضحي بحس الواقع من أجل الزخرف المجرد.
كما مارس «كريفلي» ما يشبه التجريد منذ زمن بعيد طلبا للرونق الزخرفي، كما اعتمد العرب في فنونهم الإسلامية على الزخرفة لأنهم استغنوا من خلالها عن التفاصيل الدقيقة، وسجل الانطباعيون الفرنسيون في الزمن المعاصر لهذا التجريد عندما آتوا بتحد جديد، وهو أن يرسموا عن طريق الألوان فقط، بوضعها في لطخات سريعة، تلاعب نور ضوء الشمس على الأرض.
وبهذا لم يبق إلا أن تخترق مادة اللوحة، التي تجرأ وفعلها «كاندنسكي» الفنان الروسي الذي استطاع بعد تجربة فنية أن يستخلص أن انسجام الألوان كاف وحده لإنجاز لوحة فنية، ولكن بهذا يريد أن يسحب الموسيقى التي نسمعها ونستمتع بها إلى البصر، لتمنح الألوان الناس ما يسمى بالموسيقى البصرية.
كثير من الفنانين جربوا التجريد، والقليل هم من حققوا هذا التوازن اللوني، الكثير من الناس تعتقد أن التجريد شيء سهل، لكن هذا غير حقيقي، فالفنانون الذي مارسوا التجريد بعد خبرة طويلة مع الواقعية، دفعهم الإبداع والتمرد إلى التجريد وهذا ما جعلهم متمكنين منه، بعكس الفنانين الذين بدأوا بالتجريد فجاءت لوحاتهم فقيرة لونيا، أي لم يمنحوا اللوحة تلك الموسيقى البصرية، بقدر ما رغبوا أن يمنحوا أنفسهم لقب فنان تشكيلي.